أحمد حضراني: العامل هو "رئيس مضمر" لحكومة محلية

أحمد حضراني: العامل هو "رئيس مضمر" لحكومة محلية أحمد حضراني
في التنظيم والنشاط الإداري المغربي تلعب مؤسسة العامل أدوارا هيكلية وتقوم بوظائف دستورية في بنية الدولة، ولطالما كان النقاش الأكاديمي والسياسي حول الديمقراطية المحلية ونظام التمثيلية يأخذ حيزا معتبرا في الحديث عن هاته المؤسسة باعتبارها توجد على خط التماس مع صناعة القرار المحلي والجهوي، في بعده التدبيري والتنفيذي، بل تتواجد في كافة مناحي الحياة اليومية للمواطن، ولم تتوقف الكتابات والدراسات حولها إلى حدود اليوم..
العامل في المدينة والإقليم الترابي وبالنظر للمهام المسنودة له بقوة النص القانوني هو بمثابة قائد لمجموعة من الوحدات الإدارية، أو بتعبير أكثر دقة ويمتح من الواقع التاريخي، هو "رئيس حكومة محلية"، لها آليات صناعة القرار وتدبيره وإنفاذه، الجماعات الترابية والمنتخبون هم أول "زبون" إداري وسياسي يتعامل مع العامل تنسيقا ورقابة إدارية ...
ماهو التأصيل التاريخي لهذه المؤسسة في الآداب السلطانية والنصوص الحديثة؟ كيف تتحرك في المجال الدستوري والدولتي المغربي ؟هل تصنع الفارق الإداري والتفوق المؤسساتي علاقة بباقي الإدارات؟ هاته الأسئلة قررنا التدقيق فيها مع باحث مغربي متخصص ودارس للقانون الإداري والدستوري، أحمد حضراني، رئيس مركز الدراسات في الحكامة والتنمية الترابية، التقيناه وكانت ثمرة النقاش هذا الحوار التفصيلي:
 
يحوز العامل مركزا مهما داخل التنظيم الإداري المحلي، نريد جردا تاريخيا مختصرا لهاته المؤسسة، وأدوارها قبل الاستقلال وبعده ؟؟
يعود مصطلح العامل إلى فجر التاريخ الإسلامي، فالعامل هو المكلف بمهمة أو بعمل ما، حيث درج القاموس الإداري الإسلامي على نعت المكلف بمهمة بالعامل منذ عهد الخلفاء الراشدين، كما أن المكلف بالجباية كان يسمى بعامل الزكاة.
وفي مغرب ما قبل الحماية عين الحسن الأول، بموجب ظهائر، عمالا يمثلونه في الأقاليم البعيدة كوجدة وفكيك مثلا، أما في عهد الحماية فكان المراقب المدني هو الذي يقوم بدور العامل، وقد اتسعت مهامه لدرجة أصبح معها من العناصر المفضلة للتعيين في مناصب مديري ديوان المقيم العام، ودواوين الوزارات.
وفي مغرب ما بعد الحماية تعززت مكانة العامل وسلطته؟
نعم..أسندت وأطرت بعدة نصوص تشريعية وتنظيمية وتوجيهات ملكية. فقد اعتبر ظهير 20 مارس 1956 بمثابة قانون أساسي للعمال، على أن هؤلاء يمثلون السلطة التنفيذية في الإقليم، ويقومون بالمراقبة الإدارية، والاتصال بين المصالح الخارجية في مختلف القطاعات الوزارية. وأكد ظهير 1963 المتعلق بالنظام الخصوصي لمتصرفي وزارة الداخلية مكانة العامل . أصبح هذا الأخير يعين بظهير شريف باقتراح من وزير الداخلية من ضمن المتصرفين الرئيسيين والمتصرفين والمتصرفين المساعدين من بين الأشخاص ذوي التجارب الميدانية أو حاملي بعض الشهادات الذين لا تقل أعمارهم عن 30 سنة.
لكن التغيير الجوهري سيأتي مع ظهير 1977..خاصة في السياقات السياسية التي عرفها مغرب السبعينيات ؟
استنادا لظهير 1977 المتعلق باختصاصات العمال، أصبح هؤلاء ليسوا ممثلين لوزارة الداخلية، فقط، بل أيضا ممثلين للملك، ومندوبين للحكومة. وشخص الملك الراحل الحسن الثاني مكانة العمال ومهامهم، في خطابه بمناسبة تسليم ظهائر التعيين للعمال في 25 يناير 1996، بقوله: "فأنتم عيوننا وأنتم أذننا، وأنتم الممثلون الذين يمثلوننا، لا فقط من الناحية الشكلية، بل أتمنى وأرجو من صميم القلب أن تمثلوا كذلك بوجودكم محبتي في بلدي، وتعلقي بشعبي، وحنوي على كل مغربي، للأخذ بيد الضعيف وإنصاف المظلوم، وتشجيع السائر في الطريق الصائب". وهذا الشق الثاني هو الذي ركز عليه الملك محمد السادس في خطابه الذي وجهه إلى المسؤولين عن الجهات والولايات والعمالات والأقاليم من رجال الإدارة والمنتخبين بالدار البيضاء في أكتوبر1999.
التعديلات اللاحقة نقلت مؤسسة العامل للوثيقة الدستورية، منحها المشرع مهام ووظائف إضافية؟
بالفعل نظم ظهير 31 يوليوز 2008 هيئة رجال السلطة، لكن المثير للانتباه هو التقعيد الدستوري، الذي حظيت به مؤسسة العامل حيث، نص الفصل 102 من دستور 13 شتنبر 1996 على ما يلي : "يمثل العمال الدولة في العمالات والأقاليم والجهات، ويسهرون على تنفيذ القوانين، وهم المسؤولون عن تطبيق قرارات الحكومة، كما أنهم مسؤولون لهذه الغاية عن تدبير المصالح المحلية التابعة للإدارات المركزية". وبذلك فالعامل أصبح يمثل ديمومة واستقرار الدولة واستمرارها. وأضاف قانون رقم 79.00 إلى النص الدستوري أعلاه الوالي كجهاز تنفيذي لمجالس العمالات والأقاليم والجهات، وبالإضافة إلى الرسالة الملكية الموجهة للوزير الأول حول التدبير اللاتمركز للاستثمار ( 2002 ) ، وبموجبها تم تفويض عدة صلاحيات لولاة الجهات.
وإذا كان دستور 1996 خول للعمال صلاحية تنفيذ قرارات مجالس العمالات والأقاليم والجهات(الفصل 101)، فإن دستور 2011 قد خفض من منسوب هذا السقف، إذ يعمل الولاة والعمال، باسم الحكومة، على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون المراقبة الإدارية. ويساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية ( أصبح رؤساء المجالس الإقليمية والجهوية آمرين بالصرف). كما يقوم الولاة والعمال، تحت سلطة الوزراء المعنيين، بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية، ويسهرون على حسن سيرها(الفصل145 ) ، وما أعطاه دستور 2011 لمجالس الجماعات الترابية ورؤسائها باليد اليمنى، سلبه بمقتضى القوانين التنظيمية للجماعات الترابية(2015) باليد اليسرى( مركزة سلطة الوصاية...)، كما كرس مرسوم اللاتمركز الإداري لسنة 2018 سلطة الولاة والعمال.
عندما نعود للتأطير القانوني ..نجد أن الظهير يعين العامل ولوزير الداخلية سلطة الاقتراح ... الاقتراح يسبقه اختيار، إذن وزير الداخلية له سلطة عملية في اختيار العمال، كما أصبحت سلطة الاقتراح مخولة أيضا لرئيس الحكومة، وهو ما سيخلق تنازعا في الاختصاص لم يحسمه المشرع بعد، ما تعليقك على ذلك؟؟
كما أشرت إلى ذلك في سؤالك، فقد وقع تغيير أو بالأحرى، حبل دستور 2011 بمستجد في مسطرة تعيين الولاة والعمال. فحسب الفصل 49 منه، فإن المجلس الوزاري(الذي يترأسه الملك) يتداول في مسألة التعيين في المناصب المدنية، ومنها الولاة والعمال باقتراح من رئيس الحكومة، وبمبادرة من الوزير المعني(أي وزير الداخلية).
فمناصب الولاة والعمال تندرج ضمن المناصب السامية، ولهذا يتداول بشأنها في مجلس وزاري، تتوج بتعيين ملكي، بموجب ظهائر. يتخذ مبادرة لائحة الترشيحات لهاته المناصب وزير الداخلية، وتمر بمرحلة وسيطة، أي تزكية هاته اللائحة باقتراحها من لدن رئيس الحكومة. وهذا شيء منطقي يشرك رئيس الحكومة باعتبار أن الولاة والعمال يعملون، باسم الحكومة، وتحت سلطة الوزراء المعنيين. وربما هذا المقتضى الدستوري جاء كجواب لواقعة محاولة عرقلة لقاء الوزير الأول السابق عبد الرحمن اليوسفي مع الولاة والعمال من طرف وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، كما أن المشرع المغربي اقتدى في ذلك بالدستور الفرنسي(فرئيس الجمهورية يصدر التعيينات في الوظائف المدنية، ومنها المحافظون. التي تتم المداولة بشأنها في مجلس الوزراء- المادة 13 ).
في الشهور الأخيرة هناك من تحدث عن حدوث تصادم بين سلطتي المبادرة والاقتراح في مسطرة تعيين الولاة والعمال داخل الحكومة الحالية ؟
إمكانية حدوث تنازع بين الفاعلين في مسطرة تعيين الولاة والعمال، شيء طبيعي أن يحدث اختلاف في وجهة النظر بين المبادرة والاقتراح في بعض الأسماء نظرا لمكانة وحساسية مركز الوالي أو العامل( الأستاذ عبد القادر باينة وصف ومثل العامل بمثابة "سليطن (سلطان صغير) في قويطين (خيمة) "، والرغبة في تموقع الموالين. ولكن حدة الاختلاف قد تكون ضئيلة إلى منعدمة، مقارنة مع التعيين في المناصب التي يتداول بشأنها في مجلس حكومي، والتي قد تعرف تنازعا بين مكوناته رغم شكلية لجان الانتقاء( سبق أن انقسم عدد من الوزراء حول دعم مرشح منتمي لهذا الحزب أو ذاك لعمادة مؤسسة جامعية خلال اجتماع لمجلس حكومي). ذلك أن الكلمة الفصل في تعيين الولاة والعمال تكون للملك، وهو اختصاص تقليدي له. وغالبا ما ترشح لائحة وزير الداخلية، بالنظر لتراكم علاقة التبعية بين هذا الأخير والولاة والعمال، ثم ..لأن الحركة الانتقالية والتعيين بالمناطق تتم بقرار لوزير الداخلية(المادة 14 من ظهير 31 يوليو 2008 بشأن هيئة رجال السلطة ). وقد نسب لرئيس حكومة سابق اعتراضه على اقتراح تعيين عامل، مع العلم ومن المفترض أنه هو الذي اقترح اللائحة، فكيف يعارض مقترحه؟
العامل له اختصاص التنسيق والضبط والمراقبة، له سلطة تنظيمية في الهياكل الإدارية، يمكن القول إنه بمثابة قائد إداري لمجموعة من الوحدات الإدارية، هو رئيس مضمر لحكومة محلية؟
يعتبر الوالي والعامل (Le Gouverneur) أعلى سلطة داخل الولاية أو العمالة أو الإقليم، إذ هو المؤهل للتنسيق بين المصالح اللاممركزة للدولة وانتقائية برامجها وأجهزة اللامركزية ، وهو المدبر لدينامية التنمية المحلية. ويكفي الإحالة هنا على المرسوم بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري الذي كرس الدور المحوري لوالي الجهة في تنسيق عمل المصالح اللاممركزة للدولة، والسهر على حسن سيرها ومراقبتها، وتوخي الفعالية والنجاعة في أداء مهامها، كما أن رؤساء المصالح اللاممركزة للدولة ومختلف العاملين تحت إمرتهم، يمارسون مهامهم تحت اشراف الوالي أو العامل وسلطة الوزراء المعنيين. عامل العمالة والإقليم ، يبدو أن دوره ما زال يتعاظم : "فهؤلاء الشرايين التي توصل الدم إلى الأعضاء، التي توصل القرار من القلب وهي العاصمة.. إلى الأعضاء وهي الجهات، إنهم العمال "( خطاب الملك الراحل الحسن الثاني في 24 أكتوبر 1984 عند ترؤسه المجلس الاستشاري للمنطقة الوسطى الشمالية).
علاقة بذلك، الجماعات الترابية لها حق التدبير الحر لكنها لاتستطيع ممارسة "الحكم المحلي "، محبرو القاعدة القانونية يرون على ما يبدو أن المنتخبين لم يصلوا بعد إلى "سن الرشد" السياسي والإداري ؟
التدبير الذي يقوم على الحرية في التدبير والإدارة..لايعني الحرية في الحكم .
فالمركز لا يزال ينظر بنوع من التوجس إلى المحيط(الجماعات)، حسب تعبير دوتوكفيل، تم إن المنتخبين ما زالوا في حاجة إلى الضبط والمراقبة (ربط المسؤولية بالمحاسبة) ،هذا من جهة، ومن جهة ثانية، واستحضارا لقولة ابن خلدون:" فالمغلوب يتبع الغالب حتى في مأكله وملبسه"..
بمعنى أن المغرب سلك مسلك ما هو متبع في فرنسا، ونظام اللامركزية في فرنسا من أسوأ الأنظمة. وكانت فرنسا سباقة في اعتماد هذا المبدأ بموجب دستوري 1946و1958، حيث الجماعات الترابية تدار بحرية بواسطة مجالس منتخبة، تتوفر على سلطة تنظيمية لتمارس اختصاصاتها.
واعتمد المغرب، ولأول مرة، بموجب الفصل 136 من دستور2011 ، مبدأ التدبير الحر.. حينما نص على ارتكاز التنظيم الجهوي والترابي على هذا المبدأ، وهو ما طابقته أحكام القوانين التنظيمية للجماعات الترابية(2015) من خلال الربط بين مبادئ الحكامة الجيدة وحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر، كما اختزل مبدأ التدبير الحرفي عمليات تسيير مجلس الجهة بتخويلها وفي حدود اختصاصاتها..سلطة التداول بكيفية ديمقراطية. وهذا ليس بالجديد مادامت المجالس الجماعية مثلا تتداول في قضايا الجماعة منذ ظهير 30شتنبر 1976، كما اختزل مبدأ التدبير الحر في السلطة التنفيذية للرئيس.
التعديلات التي جاءت في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية أعطت لمؤسسة العامل سلطة مراقبة المشروعية في القرارات الصادرة، الآلية التي لدى العامل هي اللجوء للقاضي الإداري، هل هذا عكس لفلسفة التحول من الوصاية للرقابة الإدارية ؟
وبالرغم من اختزال مبدأ التدبير في ما هو إداري، فهو قد جوف مع ذلك نتيجة ثقل الوصاية الممارسة على أشخاص المجالس التداولية بشكل فردي (العزل ..الإقالة.. التجريد)، أو جماعي(توقيف المجلس أو حله) وعلى أعمال مجلس الجماعة الترابية، المراقبة الإدارية على شرعية قرارات رئيس المجلس ومقررات المجلس . وكل نزاع في هذا الشأن تبت فيه المحكمة الإدارية، وتتخذ هاته الوصاية صورتين، رقابة المشروعية (البطلان التحكمي لمقررات المجلس والقرارات التنفيذية للرئيس الخارجة عن اختصاصاتهم أو المتخذة خرقا للتشريع الجاري به العمل، التعرض على النظام الداخلي، نقط جدول الأعمال)، ورقابة الملاءمة، وهي صريحة وضمنية محكومة بأجل زمني .. حيث لا تكون مقررات المجلس الجماعي مثلا، والمنصوص عليها ضمن مقتضيات المادة 118 من القانون التنظيمي للجماعات (برنامج عمل الجماعة، تنظيم إدارة الجماعة وتحديد اختصاصاتها، اتفاقيات التعاون اللامركزي والتوأمة التي تبرمها الجماعة مع الجماعات المحلية الأجنبية) قابلة للتنفيذ إلا بعد التأشير عليها من قبل عامل العمالة أو الإقليم أومن ينوب عنه، داخل أجل عشرين (20) يوما من تاريخ التوصل بها من رئيس المجلس، أو من حيث الزمن فهي تصنف إلى رقابة سابقة، مواكبة ولاحقة. والوصاية الأكثر ثقلا، الممارسة من لدن وزير الداخلية أو الوالي والعامل هي التي لها طابع مالي.
المراقبة تمارس على الأشخاص والأعمال والميزانية ...يبدو أن النص القانوني اليوم متقدم على واقع الجماعات وما يقع فيها من تردي وفوضى حقيقية ؟
هاته الرقابة الوصائية ثقيلة، لكن يبدو أنها ما زالت ضرورية بالنظر لطغيان السلوك الانتهازي للمنتخبين، وطغيان روح الغنيمة لديهم، وغلبة المصلحة الخاصة. وهذا الاعتلال لا يصيب الجسم الانتخابي فقط ، بل أصبح يطغى على كل من يتحمل مسؤولية التدبير العمومي، وفي كل القطاعات، لا لسبب إلا المناخ العام الفاسد؟ !
 
عن يومية الاتحاد الاشتراكي- عدد 20 ماي2023