جمال محافظ: التنظيم الذاتي للصحافة والحاجة لنقاش هادئ

جمال محافظ: التنظيم الذاتي للصحافة والحاجة لنقاش هادئ جمال محافظ
مشروع قانون إحداث لجنة مؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر "، موضوع المائدة المستديرة التي نظمها عشية أمس الاثنين (8 ماي 2023) بمجلس المستشارين فريق الاتحاد المغربي للشغل بالمجلس، تميزت بمشاركة ممثلين عن هيئات رسمية وحقوقية، تبادل فيها المشاركون الرأي حول عدد القضايا المرتبطة بالشأن الإعلامي والصحفي.
كما قارب المشاركون من زوايا متقاطعة، أوضاع حرية الصحافة والصحافيين ومستقبل الإعلام الوطني، على ضوء التطورات الأخيرة التي تشهدها الساحة الوطنية، وتطورات التنظيم الذاتي، بعد الإعلان عن المشروع الحكومي بإحداث لجنة مؤقتة لتسييره. فمبادرة فريق الاتحاد المغربي للشغل، تعد جد إيجابية، وغير مسبوقة على مستوى المؤسسة التشريعية. كما أنها أتت في وقتها، وتتزامن مع إحالة الحكومة لمشروعها على مجلس النواب.
تتمثل أهمية هذه المبادرة أيضا في اعتماد المنظمين، على مقاربة تشاركية بتوجيه الدعوة الى مختلف الفرقاء من هيئات صحفية تمثيلية ومؤسسات للبحث في الصحافة والاعلام، بهدف تبادل الرأي وتقديم وجهات النظر حتى تلك المتعارضة منها، حول قضايا الصحافة والنشر وخاصة منها مشروع قانون 15.23 القاضي بإحداث لجنة مؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر.
ليس الغرض هنا، التوقف عند ردود الفعل، أو رصد وتقييم إيجابيات أو سلبيات " النقاش والجدل" الدائر على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وتحليل الخطاب السائد، لكن المساهمة ولو بجزء يسير في البحث عن السبل الكفيلة بتجاوز هذا التوتر الحالي الذي لن يزيد الا من تعميق عدم الثقة في "المهنة " أصلا، وفي تراجع أكبر لمنسوب عدم ثقة الرأي العام بها، وبنسائها ورجالها وبالقيمين عليها في ظل ما يلاحظ من" احتراب وشخصنة وتصريف لأحقاد" بين " أفراد قبيلتها" .
نقاش وجدل
ويكاد تقر غالبية الأطراف إما علنا أو في قرارة نفسها، بأن مشروع قانون احداث لجنة مؤقتة لتسير المجلس الوطني للصحافة، كان قرارا حكوميا غير صائب، وخارج الزمن الدستوري والقانوني للبلاد، لتعارضه أساسا مع الفصل 28 من الدستور الذي ينص بالخصوص على أن السلطات العمومية تشجع على تنظيم قطاع الصحافة، بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية. بيد أن كل الفرقاء خاصة من " الجسم الصحفي والاعلامي"، تجمع على ضرورة الحفاظ على هذا التنظيم الذاتي للصحافة، باعتباره من بين المكاسب المحققة، بعد مسار طويل من النضالات والتضحيات والمبادرات المطروحة منذ عقود.
وكان جوهر الخلاف، قد بدأ أولا بين مكونات المجلس الوطني للصحافة، وتركز على تاريخ الانتخابات، قبل قرار تمديد صلاحية المجلس لمدة ستة أشهر، إذ كان يرى الفريق الأول، أنه يتعين فتح نقاش حول مجمل الإشكاليات القانونية، التي أفرزتها الممارسة العملية للمجلس، وإيجاد حل لها، وتطوير الآليات التنظيمية قبل اجراء الانتخابات، في حين تشبث الفريق الثاني، بإجراء هذه الاستحقاقات في موعدها القانوني، وبعدها الانكباب على مراجعة القوانين والمساطر بعد اجراء الانتخابات، بدعوى "إعطاء التنظيم الذاتي، قوة وجود، وهيبة واحتراما، وشرعية متجددة".
تنظيم ذاتي مستقل
وفي ظل هذا التنازع حول " زمن الانتخابات"، لم يطرح أي من الفريقين، ضرورة تقديم حصيلة عمل المجلس الوطني للصحافة خلال مرحلته التأسيسية، التي كان يتعين اخضاعها لنقاش بينمهني أولا وعمومي ثانيا، وهذا ما قد يثير تساؤلات عميقة، قد تكون ساهمت في فتح المجال لأطراف من خارج الجسم المهني، للتعامل مع الأمر بطريقة غير دستورية، بالتالي الاجهاز على مصداقية هذه التجربة الفتية، على الرغم من الثغرات التي عانت منها خلال مسارها.
وفي غياب هذا النقاش حول حصيلة المجلس، فإن المطلوب في الوقت الراهن، وبعد وضع المشروع الحكومي بمجلس النواب بشأن " احداث لجنة مؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر"، القيام بمبادرات مدنية، للترافع الإيجابي للحفاظ على مكسب المجلس، كإطار مستقل، يضطلع بالمهام التي أناطه بها القانون في مجال التنظيم الذاتي لقطاع الصحافة والنشر، ودور الوساطة والتحكيم في النزاعات ما بين المهنيين وإعمال بنود ميثاق أخلاقيات المهنة وذلك بغية تطوير الممارسة المهنية وصيانتها للارتقاء بالأداء الصحفي، حتى يتمكن الإعلام من التحول بالفعل الى مؤسسة ديمقراطية وسلطة حقيقية مستقلة، تحظى بتقدير الرأي العام.
ففي ظل غياب تنظيم ذاتي ديمقراطي، مستقل للصحافة، وإعلام حر تعددي وتنافسي، وضمان حرية الصحافة وكرامة الصحافيين، لا يمكن الحديث عن أية ديمقراطية وتنمية، مما يجعل الأسئلة التي يطرحها الفاعلون في الوسط الإعلامي، مشروعة خاصة منها، ما يرتبط بمدى نجاح تجربة التنظيم الذاتي في قطاعٍ لا يمكن أن يتنفس إلا في ظل أجواء الحرية والاستقلالية والنزاهة والتضامن، ويترفع فيه الجميع عن الاصطفافات والطروحات والمصالح الفئوية والذاتية، وينفذ إلى عمق التحديات والرهانات التي تفرضها طبيعة المرحلة الدقيقة التي يجتازها قطاع الصحافة والإعلام.
البحث عن التوافق
بيد أن ذلك، لن يتأتى إلا عبر الانكباب الجاد حول المعوقات الذاتية والموضوعية التي تقف لحد الآن حائلا دون اضطلاع المجلس بدوره كاملا، وباتخاذ مبادرات جريئة وقابلة للتنفيذ لتنقية الأجواء وإصلاح كافة الاعطاب والاختلالات، لبث الأمل مجددا وبالتالي تحقيق النقلة النوعية المطلوبة في مجال الصحافة والاعلام.
إن تجربة التنظيم الذاتي للصحافة، لم تكن وليدة الصدفة، أو منتوجا خالصا لحكومة ما بعد دستور 2011، التي جرى إقرار " مدونة الصحافة والنشر" في ابان فترتها سنة 2016، الأمر الذي يتطلب عدم القفز على مختلف المبادرات منذ ظهير الحريات العامة سنة 1958، ومن ضمنه قانون الصحافة والنشر، مرورا بالمحطات التي ساهمت فيها العديد من الهيئات السياسية والحقوقية والتنظيمات المهنية، وفي مقدمتها النقابة الوطنية للصحافة المغربية التي تأسست سنة 1963، ومختلف الملتقيات الوطنية، كالمناظرة الوطنية الأولى للإعلام والاتصال سنة 1993.
كما أن هذه التجربة، كانت محصلة بعض المبادرات حكومية، منها محاولات اصلاح الاعلام التي قام بها محمد العربي المساري ( 1936 – 2015 )، بعد تعيينه وزيرا للاتصال سنة 1998 . كما أنها نتيجة نضالات خاضها المهنيون خاصة في أكتوبر سنة 2002 ابان مشروع تغيير وتتميم قانون الصحافة والنشر، تميزت إبانها بمطالبة المهنيين وخاصة نقابة الصحافة، بمراجعة مجموع التشريعات المنظمة للإعلام بصورة شمولية، وإلغاء كل المقتضيات المتعلقة بالعقوبات السالبة للحرية، فضلا عن تعزيز استقلالية القضاء، وإنشاء غرف متخصصة في قضايا الصحافة.
كما تكرس هذا المسار بملتقى بوزنيقة للصحافة المكتوبة سنة 2005، والذي تميز بالتوقيع لأول مرة على اتفاقية جماعية بين فيدرالية الناشرين، ووزارة الاتصال، وبحضور النقابة الوطنية للصحافة المغربية، مع وضع سنة 2007، تم مسودة أولية لمشروع مدونة للصحافة والنشر ، لم يتم جدولتها في المسار التشريعي. وفي سنة 2010 كان " الحوار الوطني للإعلام والمجتمع" بمبادرة من فرق برلمانية تميز بإصدار " الكتاب الأبيض". وتوجت هذه المرحلة، سنة 2011، بدسترة الصحافة والاعلام ، وبعدها جاءت مدونة الصحافة والنشر الحالية التي تتطلب في المرحلة الراهنة، مراجعة شاملة، حتى تتلاءم مع التحولات المتسارعة على المستوى الوطني والدولي.
أخلاقيات الصحافة..التاريخ والهوية
من خلال هذا المسار فإن ميلاد المجلس الوطني للصحافة، لم يكن رهين " توافقات" سنة 2016، بل كان سيرورة تاريخية، ساهمت فيها أجيال متعددة من مواقع وحساسيات ومسؤوليات متعددة، ونتيجة إرادة معبرة عنها عمليا من أجل تكريس صحافة واعلام، يساهمان في التطور المجتمعي والبناء الديمقراطي.
كما أن كثيرا ما يتناسى أو لا يذكر البعض، بأن المجلس الوطني للصحافة، يعد ثمرة وتطور تاريخي وطبيعي، ومحاكاة، لتجربة رائدة سابقة عن احداثه، هي " الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير " التي تأسست سنة 2002، كمبادرة مدنية، وشكلت، قبل اجهاضها، ( وتلك قصة أخرى )، مرحلة جد متطورة في مجال تدبير ديونطولوجيا الصحافة، وتقدما نحو معالجة أخلاقية المهنة، بطريقة أكثر نجاعة، استلهمت- بعد نقاش دام سنتين،( من 2000 الى 2002 )- تجارب الدول الديمقراطية، لمعالجة قضايا الصحافيين انطلاقا من تعهدات والتزامات يعملون بأنفسهم على وضعها واحترامها. كما يختارون عن طواعية، أن يمثل الى جانبهم الناشرون، وهيئات حقوقية وثقافية الأكثر مصداقية وحضورا داخل المجتمع.
وبالعودة الى المائدة المستديرة حول " مشروع قانون إحداث لجنة مؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر" بمجلس المستشارين، فإن المشاركين، بعد نقاش غني ومثمر حول قضايا الصحافة والاعلام تناولوا فيه إشكاليات قانونية وحقوقية وديمقراطية، خلصوا الى التأكيد على الأهمية التي يكتسيها، التشبث بالتنظيم الذاتي على الرغم من الملاحظات المطروحة حول مساره، باعتباره يشكل احدى العلامات المضيئة للإعلام والديمقراطية، مع اعلان التشبث بانتخاب هياكل المجلس، كمبدأ تنص عليه الوثيقة الدستورية .
لكن المشاركين، على الرغم من كونهم، عبروا عن "رفضهم القاطع لمنطق التعيين"، لكونه سلوكا غير ديمقراطي، ولا يلبي مطالب المهنيين في الاختيار الحر والمباشر لممثليهم، فإنهم تركوا الباب مفتوحا، للبحث عن السبل الكفيلة بإعمال روح التوافق بين كل الأطراف بدون اقصاء وتهميش، لتجاوز أولا حالة التوتر والاحتقان المسجل بين مكونات الجسم الصحفي والإعلامي الواحد، وإعادة اللحمة اليه وثانيا الاتفاق على الصيغ الممكنة والمقبولة، لحلحة الموضوع، في ظل حوار هادئ ومسؤول يضع بعين الاعتبار الصالح العام.