قال مولاي عبد الحكيم الزاوي، وهو أستاذ باحث في علم الإجتماع، أنه "لا يكفي أن توجد ترسانة قانونية ومؤسسات رقابة لضبط اختلالات تسيير الشأن العام. في المغرب، لم يكن المشكل قطعا في النّصوص والتّشريعات والمقتضيات القانونية، بله في غياب الإرادة السّياسية وبشيوع "مناخ عام" يشجع على الفساد".
وأوضح الزّاوي، في حوار مع أسبوعية "الوطن الآن"، أن "الفساد في المغرب قطاع استراتيجي حيوي، له مؤسسات حاضنة، ويُسيّر بشخوص وفاعلين لهم القدرة على الإشتباك مع المصالح العليا لمالكي وسائل الإنتاج والإكراه، فنحن اليوم نعيش لحظة اختناق سيّاسي؛ ورداءة قاتلة في المشهد السّياسي، واحتباس عميق في النّقاش السّياسي...". وفي ما يلي نصّ الحوار:
في كل التّقارير يظهر أن مؤشرات محاربة الفساد في المغرب مقلقة رغم وجود ترسانة قانونية نوعية ومؤسسات تعنى بالتّصدي لذلك أمام ملفات تشغل الرأي وتشوّه صورة المغرب في الدّاخل والخارج. ما قراءتك؟.
المحلّل الحصيف دائما ما يجب أن ينطلق من الممارسات الأرضية، والتّعبير هنا مستوحى صاحب "المجتمع السّائل" The Liquid Society لزيغموند باومان، والقصد كل ما ينتج ويمارس على الأرض. لا يكفي أن توجد ترسانة قانونية ومؤسسات رقابة لضبط اختلالات تسيير الشأن العام. في المغرب، لم يكن المشكل قطعا في النّصوص والتشريعات والمقتضيات القانونية، بله في غياب الإرادة السّياسية وبشيوع "مناخ عام" يشجع على الفساد.
باختصار، ما أسميه بـ "المناخ العام" الحاضن لبنية الفساد في البلد...ملفات عديدة متراكمة على طاولة القضاء، منها ما صدر بشأنه حق نهائي دون القدرة على التّنفيذ، ومنها ما زال يراوح مكانه لضغط من جهة ما...المسألة في تدبير الملفات دائما ما كانت تخضع للتوازنات السّياسية الضّيقة وتجاذبات اللّحظة السّياسية من أجل مكاسب سياسية وليس من أجل تخليق الحياة العامة وترشيد المال العام...الحاصل، يلاحظ المدقّق للوضع وجود مناخ ذهني سلبي لدى المواطن المغربي يجعله يفقد الثّقة في المؤسسات، وفي الأداء السياسي من أعلى مستوياته إلى أدناها...هنا يجب أن نُوسع الرؤية خارج دائرة التّجاذب السياسي المغربي نحو تحليل بنية الوضع الإقليمي، هنا يجب أن نعلم أن ربيع تونس ومصر لسنة 2011 حركته في الأصل ملفات الفساد السّياسي والسّخط الشعبي من التدبير الحكومي للقطاعات الحيوية. هنا يجب أن نعلم أن التاريخ يتأسس على اللاّمتوقع imprévu الذي قد يهدد حياة نظام سياسي إذا لم يجد الآليات من أجل تخليق واقعه السّياسي.
ما الذي يجعل الفساد متجذرا بل صار عقيدة في المجتمع ليس فقط لدى المسؤولين بل إن المفسد في البلاد هو "القويّ" (القافز) وأن من يبذّر ميزانية مؤسّسة عموميّة أو جماعة ترابية أو إدارة هو "الجريء" وأن من يطبق القانون والمساطر هو 'الضعيف" (الخائف). لماذا وكيف؟
يجب أن نعترف بكل جرأة بأن الفساد في المغرب قطاع استراتيجي حيوي، له مؤسسات حاضنة، ويُسيّر بشخوص وفاعلين لهم القدرة على الإشتباك مع المصالح العليا لمالكي وسائل الإنتاج والإكراه مثلما يقول بيير روزين فالين...الملفات التي تصل إلى القضاء بالنّهاية هي ملفات قد تدخل ضمن تصفية نزاعات وخصومات بين الحيتان الكبرى...هناك مفارقة جوهرية في هذا السّياق، كل الأحزاب السياسية ترفع شعارات تخليق الحياة السّياسية ومحاربة الرشوة، لكنها أول من يعمل على إفساد العملية الدّيموقراطية...في الواقع، هناك فجوة عميقة بين الخطاب والممارسة، بين النوايا والشعارات، وبين المصالح والمنافع.
وكلما أوغل الفساد في بنيات الدولة كلّما تقلّصت حظوظ الإنعتاق من التّخلف والإستبداد...من جهة أخرى، يمكن الإقرار بهذه الملاحظة مغربيا: المغربي ليس لديه مشكل مع الرّيع والفساد بل له مشكل من عدم الإستفادة منه. يحضرني في هذا الصّدد، توصيف بليغ للراحل إدريس بن علي "الإستفادة من طاجين دار المخزن"، الكلّ يتدافع من أجل التّغماس من طاجين دار المخزن، بل ويصير الإقتراب من ولائه والإستفادة من عنايته طريق الوصول إلى القمّة. تقف أمام ناظري نازلة سوسيولوجية: طالب جامعي معطّل كان يقود بحماس منقطع النّظير نضالات جمعية المعطلين من أجل المطالبة بالحقّ في الشّغل وفضح الفساد الإداري، حينما تم توظيفه في إحدى المؤسسات اشتهر بين النّاس بفساده وراكم الثّروة في ظرف قياسي وجيز...أضرب هنا مثالا للتّوضيح، والقياس ممكن على حالات كثيرة.
في مقابل هذا المشهد، يصنّف المواطن المغربي الذي يؤمن بثقافة القانون وبشرعية المؤسسات في خانة "الكانبو" الذي لا وليّ له يعينه على قضاء مصالحه الشخصية...المناخ العام الذي تحدثت عنه في البداية هو الذي يصنع المواطن الإنتهازي الذي يدوس على كل القيم والمبادئ من أجل قضاء مصلحة بطرق غير قانونية، المواطن الذي يتعنّى بأرقام هواتف مسؤولين إداريين وأمنيين من أجل قضاء مصالحه. بالفعل، هناك شبكات اجتماعية تشتغل في هذه الوساطات.
اليوم تفجر ملف مبديع في قضية فساد، هل هي مقدمة لتطهير المغرب من الفساد أم فيلم فقط من أجل الإلهاء أم حملة لذرّ الرماد في العيون أم حملة لامتصاص غضب المجتمع المغربي الذي ضاق ذرعا من الفساد وأوجهه في البلاد؟
لا يجب أن نتبنّى تحليلا سياسيا متسرّعا، لا يجب أن نعتبر الملف في حلقاته الأولى مقدّمة لبدء مسلسل طويل جدّا، وشاقّ جدّا...التّحليل السّياسي يجب أن يكون متزنا في قراءة تفاصيل الواقعة، وضمن شروط إنتاجها، وسياقها السّياسي، وألا نستعجل التّغيير إلاّ حينما تظهر ملامحه الكبرى من خلال ارتسام رغبة سياسية واضحة في اقتلاع جذور الفساد...الثّابت، سياسيا، أننا نعيش لحظة اختناق سياسي؛ ورداءة قاتلة في المشهد السّياسي، واحتباس عميق في النّقاش السّياسي...كلّها معطيات قد تُدعم إلى حد كبير فرضية خلق جدل وطني حول قضيّة معينة من أجل منح الحكومة فسحة زمنية لإعادة ترتيب وتوضيب قضايا التّدبير السياسي...هناك ملفات أكبر من ملف مبديع، أو في حجمها على الأقلّ، لكنّها تظلّ في غرفة الإنتظار. يجب أن نتبنّى المقولة الفرنسية التي تقول: " لايجب أن نعمد إلى قتل البعوض بل إلى تجفيف المستنقعات". ومسألة التّجفيف تتطلّب شروطا موضوعية من أجل التّحقّق...غير ذلك، سنظل ننجذب إلى ثقافة المحاسبة المناسباتية الكرنفالية التي تضحّي بواحد من أصل ألف.
الحاصل، المسألة أعمق من أن تختزل في ملف واحد للقول بأن هناك توجّه سياسي عام يستعدي بنية الفساد.