تجذّر الفساد في المغرب حتّى صار عقيدة في المجتمع، فالفساد في المغرب بنيويّ، يبدأ من المواطن البسيط الذي يقبل أن يبيع صوته بورقة نقدية مهما كان قدرها أو مبلغها أو يبيع صوته مقابل مصلحة كيفما كان نوعها، أو خدمة كيفما كان نوعها.
ما نرصده أن مواطنا يلجأ للمال من أجل رئيس جماعة لأنه سيمنحه ترخيصا بالببناء العشوائي أو الاستفادة من احتلال الملك العمومي، أو تشييد بناء غير قانوني ... نبدأ أيضا من المواطن بالمواطن الذي يبحث عن الوسيط أو القاضي الذي سيوصله إلى القاضي ليقتضي حقّا يعلم قبله وقبل غيره أنه حقّ غير مشروع له ولغيره..فهنا يبدأ الفساد.
وهناك دراسات اجتماعية وسيكولوجية قام بها أحد الباحثين الغربيّين في قياس قابلية الإنسان للفساد. فحينما نلاحظ في تصرّفاتنا البسيطة يستعمل المياه ويستعمل ورقة المناديل بتعفّف ويستعمل سائل غسل اليدين بتعفّف، لكنّه حينما يكون في فضاء خارج بيته لا يستعملها بتعفّف. داخل البيت نحرص على استعمال الإنارة والنظافة وغيرها بتعفّف، غير أن المواطن لايتورّع في الشّارع العام، وأحيانا في المصاعد والأدراج ذات الملكية المشتركة، وأحيانا في الحدائق والأزقة.
سلوك ينبأ بقابلية صاحبه للفساد. الفساد بنيوي نعم، الفساد أصباح عقيدة وسلوك نعم... وطريقة رصد وتشخيص هذا الفساد من قبل بعض مؤسسات الدّولة ما تزال تعتريها تعثرات واستنكاف حول إعطاء التّشخيص الواقعي، رغم أنه في بعض الأحايين فلتات من قبل المندوبية السّامية للتّخطيط، والمجلس الأعلى للحسابات، وبنك المغرب تضع يدها على مكامن الخلل.
لكنّ الإشكال في المتابعة وما بعد. تقف على فساد ثم ماذا بعد؟. نرصد فعلا أن الفساد بنوي، وأن المواطن الحدق في نظر المواطن هو الذي يمتلك العلاقات وبيده مفاتيح فتح جميع الملفات كيفما كان نوعها، وأحيانا بطرق غير مشروعة.
وبخصوص ملف مبديع، أنا كحقوقي ضدّ أيّ اعتقال احتياطي كيفما كان الظرف، لأن الإعتقال الإحتياطي معضلة حقيقية عقابية، لأننا ينبغي أن نتخلّص من الدّهنية العقابية، بدعوى أن يملك مفاتيح السّجون، هو الذي يملك السّلطة. في أحايين كثيرة دوريات ومراسيم تشرّع لأشخاص تابعين وأشخاص مرتفقين داخل مؤسّسات.
أنا بالنّسبة كحقوقي، أقول أنّ مبديع وإن كان متّهما، فإنه يتمتّع بحقوق دستورية التي تقضي في العنوان العريض أن "الأصل في الإنسان هو البراءة. فلا يجب على الإنسان أن يعتقل إلاّ بناء على قرار أو حكم قضائي حائز لقوة الشّيء المقضي به". أما الإجراءات الأخرى التي يمكن أن تكون فيها المتابعة ومن أينك لك هذا؟، ينبغي أن تنجز فيها إجراءات احتياطية من قبيل المنع من السّفر وحجز نقل الأموال.. لكن الإعتقال أنا ضده.
وجوابا عن سؤالكم: هل ملف مبديع بداية مقدمة لتطهير المغرب من الفساد؟.
أتمنى ذلك، لكن المؤشرات تقول بأن نية مسؤولينا لا تنصرف إلى تجفيف منابع الفساد، وسحب بعض القوانين والتّراجع أخرى من قبيل الإثراء غير المشروع وتجريمه. ومن أين لك هذا؟. هذه أمور تنبأ أن حكومتنا ليست لديها نيّة تجفيف منابع الفساد. لكن أتمنى أن أكون خاطئا، لكن الظّاهر هو هذا.
نتمنى أن لا تكون حملات تطهيرية موسمية، كما حدث في زمن البصري، وأنا ضد الإعتقال الإحتياطي في احترام تامّ لقرينة البراءة وتطبيق القانون، وأن نعلن للعموم والجرأة ما بعد التشخيص أن تأتي الإجراءات، فلا يستساغ منطقا ولا عقلا أن يجمع إنسان بين السلطة والمال، له مصلحة في المناقصات والمزايدات وبيعها في المغرب.
هناك جهات عرف فيها الفساد، أرقاما قياسية واستفحل وأصابت شظاياها جميع القطاعات. في ملفات أخرى أؤكد أنه لم يتعاطى معها القضاء بشكل حازم من قبيل مافيا العقار بجهة كلميم واد نون. أنا أستغرب هذا المنطق لدى النّيابة العامة، شخص لديه كامل الضّمانات ويعتقل، وشخص آخر له أختام الدّولة يصول بها يجول ويستخرج بها عقد مزوّر، في كل مرة، يتعلّق بعقارات الغير، وما يزال حرّا طليقا ولديه مئات الملفّات. مسألة لا يستسيغها العقل.
أتمنّى أن يكون هاته النّية لدى مسؤولينا أن تتّجه إلى سن قوانين تضرب بيد من حديد على الفاسدين، وأن تسنّ قوانين واضحة فيما يخص ممارسة الحرّيات وممارسة الحقوق. فلا يعقل أن بعض الشّواهد العادية جدّا ليس لديها قانون، هو أمر متروك للسّلطة التّقديرية للمقدّمين والقيّاد.
وحتّى المساطر المعقدة جدّا في المراكز الجهوية للاستثمار تسيّر بمزاجيات ودوريات المسؤولين الجهويين، تنضاف إليها ظواهر فيها الفساد منها "الرّعي الجائر". هل هناك نيابة عامة فتحت تحقيقا في ذلك، وفي خلفية من يملكها في عدد من المناطق فساد، يأتون على الغطاء النباتي ويتلفون المزارع والممتلكات في مناطق سوس وكلميم.. وهناك ملفات عديدة يجب أن يطالها التّمحيص والدراسات القضائية، حتى يجسد القضاء استقلاليته ويصدر أحكاما وأن لا يتورّع في استصدار أحكام منصفة للضّحايا، والهدف منه أن يكون لدينا مواطن واع، له ظروف عيش مريحة، وتحافظ على كرامته الإنسانيّة والآدمية.
عمر الداودي، الحقوقي والمحامي لدى هيئة المحامين بالرّباط