محمد هرار: نعمة المصيبة

محمد هرار: نعمة المصيبة محمد هرار
في خضم زحمة الحياة ومشاغلها، ومع إغراءات الفتوّة يظنّ الإنسان أنّه روبوط قويّ لا يعتريه ما يعتري المخلوقات من ضعف.. إلّا أنّه وبمجرد وعكة صحّيّة بسيطة يُصاب بها تتغيّر حياته وتتأثّر مشاريعُه وتتبدّل أحلامه، ويُدرك أنّه مخلوق ضعيف لولا أن كرّمه الله تعالى بالعقل، وأنّه قد خُلق من ماء مهين، وأنّه موهَنُ القوّة لا حلية له ولا حول. كما ويُدرك كم أنّ هذه الحياة تافهة لا قيمة لها إن لم نعمّرها بالإعداد لآخرتنا.
ينكسر لحاله في الوهلة الأولى، ثمّ سرعان ما يُشرق قلبه وتتهيأ نفسه لمناجاة خالقه؛ فاللحظة لحظة صدق وانكسار.. فيوقن السّقيم ساعتها أنّ لا قيمة للمال والمنصب والجاه، ويرى أن ما كان يبدو نسبيّا قد بات مطلقا، وما كان مظنونا قد أمسى محقّقا، وأنّ كل زاد لم يعد له قيمة في الادّخار، بل هو زائل، إلّا ما كان من العمل الصّالح، فيفقه أكثر من ذي قبل قول ربّه جلّ وعلا: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}.
فالمصائب مثل مصيبة المرض تُزيل الغشاوة وتستدعي البصيرة تساعد البصر أو تعوّضه في النّظر للأشياء، فتبدو الحقائق واضحة للعيان ويطفو على السّطح ما كان خافيا ويحضر في الذّهن ما كان غائبا عنه أو مغيّبا. فيغدو المصابُ دقيقا يَرى ما لم يكن يرى من قبل. ثمّ لا يكون الحكيم إلّا ذلك الذي يقبل ما ابتلي به ويصبر عليه ويحتسب. (عجبا لأمر المؤمن، إنّ أمره كلّه خير وليس ذاك لأحد إلّا للمؤمن إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له). حديث شريف.
قد يشعر المصاب بما لا يُقاسمه فيه غيرُه من ألم وضجر وعناء السّهر والحمى والحرمان من كثير ممّا تتوق إليه نفسه، غير أنّ جولة في مصائب غيره تزيح عنه كلّ ذلك وتُلزم لسانَه الحمدَ وتُنزل السّكينة في صدره، وقد أسلم شأنه لربّه جلّ وعلا، وقد علم أنّه عبدُه وصنعتُه، يحييه ويميته، ولا يميته إلّا بأجل مسمّى، فيصفو قلبُه وتنتفض نفسُه تزيل ما يمكن أن يضع عليها الضّعفُ من كآبة أو انصراف أو ذهول لا يليق بالمؤمنين الصّادقين.
لا شك أنّ المرض بما يحمله من معاناة وابتلاء قاس على النّفس، يجعلها بين الخوف والرّجاء، وهو إلى ذلك محطّة تطهير مهمّة وورقة تقييم تميّز القويّ من الضّعيف ووسيلة بيداغوجيّة تعيد ترتيب الأولويّات ووسيلة رؤيا تصحّح المسافات؛ فإنّ ما أبدته لك الفتوّة ليس بالضّرورة دقيقا ولا كما يتصوّره وليست المسافة كما يتصوّر البعض طويلة؛ فقد قضى الله تعالى بعدم إظهارها جليّة كي يستعدّ العبد للمفاجأة، فلعلّ المنعطف قريبا ولعلّ النّهاية أقرب...
قام أبو بَكرٍ الصديق رضي الله عنه مرّة على المنبرِ ثمَّ بَكى فقالَ: قامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلّم عامَ الأوَّلِ على المنبرِ ثمّ بَكى فقال: سلوا اللَّهَ العفوَ والعافيةَ فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقينِ خيرًا منَ العافيةِ. فاللهمّ إنا نسألك العفو والعافيه والمعافاة الدّائمة في الدّين والدّنيا والآخرة.