يستعصي فهم الصراع الدائر بين الجيش وقوات حميدتي من دون العودة إلى دارفور، إلى الحرب التي أشعل شرارتها البشير ذاته باعتماد حكومته تقسيما إداريا في 1994، جزّأ بموجبه الإقليم إلى ثلاث ولايات وسلّم مواقع للسلطة فيها لأفراد يتحدرون من قبائل عربية. ثم رفضت القبائل غير العربية التقسيم، واعتبرته تمزيقا لوحدة الإقليم وتجريدا لسلطتها وقيادتها التقليدية في بلاد الفور. زاد الجفاف من حدّة الخلافات على الماء والأرض والمرعى بين مزارعي هذه القبائل والأبّالة، العرب الرّحل الذين لم يمنحهم الاستعمار البريطاني ملكية الأراضي واستغلال المراعي، بمن فيهم قبائل الرزيقات الشمالية العربية.
بدلا من إصلاح ما أفسده الاستعمار والجفاف وقرار التقسيم، استغلّ نظام البشير مظلومية العرب الأبالة وسلّح بعض أبنائها، ثم زجّهم في حرب عنصرية ضد "الزرقة"، وهو لقبٌ تمييزي يُطلق على "السود" في السودان، سواء أتحدروا من الجنوب أو من جبال النوبة أو دارفور. أصبحت "الزرقة" في الإقليم من قبائل الفور والمساليت والزغاوة والبرقد وغيرها من القبائل غير العربية تعرّف نفسها أنها أفريقية، وحمل أبناؤها السلاح في وجه عنصرية النظام العسكري - الإسلاموي، وأصبحوا يطالبون بتنمية الإقليم وبتمثيل عادل في السلطة المركزية، أملا في حصولهم على الحقوق التي كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان تتفاوض بشأنها آنذاك مع الحكومة في محادثات سلام نيفاشا.
شنّ "جيش تحرير السودان"، في إبريل 2003، هجوما على مطار مدينة الفاشر، ودمّر معظم الطائرات الحربية فيه، ما ساهم في تصعيد حرب الخرطوم الإثنية التي كانت تستهدف، في آن، الحركات المسلحة وقبائل "الزرقة" التي تنتمي إليها. سخّر النظام لهذه الحرب جيشا هجينا يجمع بين قوات حكومية (القوات المسلحة الجوية والبرّية، والشرطة وجهاز الأمن والمخابرات) وقوات شبه حكومية تضم مليشيات الجنجويد العربية التي كان بعضُها يمتطي الخيول والإبل، وبعضها يتحرّك بعربات الدفع الرباعي وفّرتها لهم الحكومة إلى جانب السلاح والرواتب وضمانات الإفلات من العقاب.
كان تقسيم الأدوار بين هذه القوات يتم بشكل مُحكم، بحيث تفتتح القوات الجوية الهجوم بقصف القرى، تمهيدا لهجوم القوات المسلحّة والشرطة وجهاز الأمن ومليشيات النظام. منذ تصعيد الحرب في مطلع 2003، وثقت منظمة هيومن رايتس واتش الأميركية وغيرها من المنظمات الحقوقية تكتيكات حرب النظام، بما لا يترك مجالا للشك بأن مليشيات الجنجويد كانت تابعة لحكومة البشير، وتأتمر بأوامر جيشه في الميدان. ولكن، في 30 يوليوز2004، اعتمد مجلس الأمن القرار 1556 الذي برّأ الحكومة السودانية وقواتها المسلحة، ونسب كل جرائمهما إلى "الجنجويد"، بما في ذلك الاستهداف العرقي، ثم منح حكومة البشير 30 يوما لنزع سلاح "الجنجويد" وتسريحهم ومحاكمة قادتهم. وكان البشير متأكّدا من أن المجلس لم يكن جادّا في قراراته ومتأكّدا من دعم الصين وروسيا لجرائمه، فتجاهل القرار بكل أريحية، ومضى يوسّع مليشياته ويشرعن وجودها لتصبح قوة قائمة بذاتها، وثِقلا موازيا للجيش يحميه من غدر الأخير. في مطلع 2006، كشف "فريق الخبراء المعني بالسودان" التابع لمجلس الأمن أن عديدا من مليشيات الجنجويد كانت بالأساس جزءًا من الأجهزة الأمنية، وأنه بعد اعتماد مجلس الأمن القرار 1556، جنّدت الحكومة عددا آخر منها، ونجحت في إدماجها في "قوات الدفاع الشعبي"، و"حرس الحدود"، وشرطة الاحتياطي المركزي"، و"الشرطة الشعبية" و"شرطة البدو" (S/2006/65).
غضّ مجلس الأمن الطرف عن تقارير فريق الخبراء، وسمح للبشير بمأسسة مليشياته وتزويدها بأسلحة ثقيلة وعربات خفيفة وأسماء جديدة وحصانة مطلقة، توّجت في عام 2013 بقرار تأسيس "قوات الدعم السريع"، آخر نسخة للجنجويد وأخطرها، بقيادة حميدتي. وقد شهد هذا العام بداية صعود تاجر الماشية وحارس القوافل التجارية بين ليبيا والسودان إلى قمة مسرح الأحداث بعد سلسلة انقلابات على أولياء نعمته، بدءًا بابن عمه، الشيخ موسى هلال، ناظر المحاميد وأبرز قادة "الجنجويد"، والذي كان قد توسّط لتجنيد حميدتي الذي عمل تحت إمرته في "حرس الحدود"، أبرز مليشيات الجنجويد، من 2003 إلى 2006. لكن طموح حميدتي جعله يخرُج عن طاعة ابن عمّه، ويقابل البشير ليأذن له بتأسيس مليشيات تابعة له. وفقا لمنطق "فرّق تسد"، استجاب البشير لطلبه، مراهنا على التنافس التقليدي بين عشيرتين متحدرتين من قبيلة الرزيقات، "المهارية" التي يطمح حميدتي في تزّعمها و"المحاميد" التي يتزّعمها موسى هلال.
قاد حميدتي مليشيا تضم حوالي ألف مقاتل شرس، قبل أن يتسلّم في عام 2013 قيادة "مليشيا الدعم السريع" التي أسسها البشير لتحجيم نفوذ موسى هلال. بدأ حلم السلطة يراود الأخير بعدما انشقّ عن الحزب الحاكم واستولى على مناجم ذهب جبل عامر في مطلع السنة ذاتها، وأسّس "مجلس الصحوة الثوري السوداني" في السنة التالية، ثم أصبح يطالب بمنصب النائب الأول لرئيس الحكومة، ومنصب حاكم ولاية شمال دارفور في انتخابات 2015. ومع نهاية 2017، تولّى حميدتي شخصيا مهمة القبض على ابن عمه حتى أرسله إلى الخرطوم مقيّدا بالسلاسل والأغلال. وهكذا سطع نجم حميدتي الذي أنهى أسطورة موسى هلال ودَمَج عديدا من مليشياته في "الدعم السريع"، وهزم كبرى الجماعات المسلحة في دارفور. في يوم 13 ماي 2017، قال البشير، في حفل تخرّج حوالي 12 ألفاً من قوات الدعم السريع في الخرطوم، إنها "الذراع القوية للقوات المسلحة، واستطاعت تأمين الحدود ومحاربة تجار البشر ومحاربة تجار السلاح والمخدّرات، وأن هذه القوات جاهزة لكل موقع في البلاد".
هكذا تحوّلت المليشيات رسميا إلى قوات عسكرية حكومية، بعدما أجاز البرلمان السوداني مشروع قانون "قوات الدعم السريع" الذي جعل الأخيرة "تتبع للقوات المسلحة وتأتمر بأمر القائد الأعلى"، بعد أن كانت تتبع لجهاز الأمن والمخابرات. رفع البشير حميدتي إلى رُتبة لواء ثم إلى رتبة فريق، وسمح لقواته بالاستيلاء على مناجم ذهب جبل عامر، وبالمشاركة في حرب اليمن، موفّرا لها بذلك مصدرا ماليا من الرياض وأبوظبي، بالإضافة إلى الميزانية الحكومية وتمويل الاتحاد الأوروبي مقابل "حراسة" الحدود ومنع تدفق المهاجرين إلى أوروبا. وبهذا، نجح في إيجاد نوعٍ من التوازن الاقتصادي بين قوات الدعم السريع والجيش الذي يسيطر على مفاصل الاقتصاد السوداني.
وبما أن طموحه يتعارض مع فكرة الولاء والانتماء، انقلب حميدتي على البشير، ليس انحيازا للثورة كما يزعم كثيرون، وإنما خوفا على قواته وعلى الجيش من انقلاب الضباط الصغار الذين بدأ التحاقهم بالثورة آنذاك يشكّل تهديدا حقيقيا للنظام العسكري. وما أن أُسدل الستار على فصل البشير، حتى انحنى قائد "الدعم السريع" لرجل المرحلة الجديد، عبد الفتاح البرهان، وقبّل يده قبل أن يعضّها. الرجلان إخوة سلاح، وشريكان حميمان في جرائم النظام، يعرفان بعضهما بعضاً منذ 2003، حين كان البرهان قائد حرس الحدود (الجنجويد) في دارفور. عملا معا في حرب اليمن، قبل أن تلتقي مصالحهما من جديد من أجل إزاحة البشير وإنقاذ النظام من الثورة. اختار البرهان رفيقه حميدتي، وقبِل بترقيته إلى فريق أول قبل تعيينه نائباً له في رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، ثم في مجلس السيادة.
قاد رجلا البشير الثورة المضادّة معًا، عبر قمع المتظاهرين وفكّ الاعتصام في المجزرة أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، وتعطيل الفترة الانتقالية إلى أن توّجاها بانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي عطّل مؤسّسات التحول المدني. منذ اختفاء البشير، تضاعف عدد قوة الدعم السّريع من 40 ألفاً إلى حوالي مائة ألف مقاتل، وتوسّع نطاق تجنيدها من قبائل الغرب العربية إلى قبائل الشرق مرورا بجبال النوبة، وازداد تجهيزها بأسلحةٍ ثقيلةٍ لا ينقصها سوى الطيران الحربي. تم هذا التمدّد الأخطبوطي على مرأى البرهان ومسمعه، ما أثار انزعاج فئات من الجيش أصبحت ترى في هذه القوات خطرا على وجودها.
طفت اختلافات الرجلين إلى السطح وبلغ السيل الزبا مع خضوعهما لضغوط محلية ودولية وإقليمية، جعلتهما يوقعان على اتفاق غير واقعي (الاتفاق الإطاري) ينصّ على خروج دولة العسكر من السلطة والاقتصاد بعد حكم دام زهاء نصف قرن، ويأذن باستئناف تفكيك نظام البشير، وتحقيق العدالة، وإصلاح أمني وعسكري يحظُر على القوات المسلحة مزاولة أي نشاط اقتصادي، ويحثّ على دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. مشروع تحويل ولاء قوات الدعم السريع إلى الجيش هو ضربة قاضية أبى أن يستسلم حميدتي لها، مفضلا الحرب والمواجهة من أجل البقاء وحلم الاستفراد بقيادة المنظومة العسكرية، وحتى في هذه الحرب تلتقي أيضا مصلحة البرهان وحميدتي في تعطيل التوقيع على اتفاق نهائي يحمل في طياته نهايتهما.
بعد حوالي أسبوع من المواجهات العنيفة بين الطرفين أبانت قوات الدعم السريع عن قدرتها على الصمود في وجه الجيش وطيرانه ودباباته، وألحقت أضرارا بطيرانه ومرافقه وجنوده، اهتزّت معها صورة الجيش الذي لم يُهزم التي حاول تسويقها في هذه المواجهة. في تقديره هذا الموقف الذي ينذر بالأسوأ للجيش في حال استمراره، توصّل البرهان إلى أن الجميع في هذه الحرب خاسر، وأصبح يدعو إلى الحوار بعدما كان يرفض الجلوس إلى طاولة التفاوض مع خصمه: "يجب أن نجلس معا كسودانيين ونخرج المخرج الملائم حتى نعيد الأمل ونعيد الحياة". وتغيير موقف البرهان نابع من معرفته بغريمه ووعيه بمدى تشابههما إلى حد التماثل، وخوفه من حجم الخسارة التي ستسبّبها الحرب باقتصاد الجيش ومؤسّسته، كل هذه العوامل سمحت بدخول القوى المدنية على الخط للقيام بدور الوساطة من أجل وقف إطلاق نار دائم.
ومن المبكّر الحكم على جدّية نيات الجيش المعروف بمراوغاته، ومدى استتباب الهدنة والعودة بالحوار إلى الاتفاق الإطاري، لكنه في معركة كسر العظام الجارية يعوّل على تفوقه في العدد والعتاد وعلى سيطرته على الأجواء والجسور، وقد يحسم المعركة في الخرطوم إن استطاع الحفاظ على المواقع الاستراتيجية ومراكز التصنيع الحربي وقطْع خطوط الإمدادات العسكرية عن الدعم السريع. إن حدث ذلك، ولم يعد لحميدتي ما يخسُره في الخرطوم، سيصبح أكثر توحّشا، ومن الأرجح أن يواصل معركته في مناطق أخرى، خصوصا في دارفور، حيث سيسعى إلى الحفاظ على مصدر ثروته ذهب جبل عامر، وحيث يتمتع بحاضنة قبلية لها امتداداتٌ في تشاد وأفريقيا الوسطى المجاورتين. وإذا فشل حميدتي في السيطرة على الخرطوم قد يصبح هدفه تأجيج حرب أهلية وتكبيد الجيش خسائر فادحة، من اغتيالاتٍ وتخريب ودمار شامل.
ولكن استمرار الحرب بين جيش البرهان وقوات حميدتي يحمل أيضا فرصة انهيار المنظومة العسكرية التي أسّسها نظام البشير، بما يسمح للمدنيين باستعادة الحكم والتأسيس لدولةٍ مدنية ديمقراطية، وهو سيناريو يكاد يكون مثاليا لولا كلفته البشرية الباهظة، ولولا أن القوى المدنية السودانية منقسمة على ذاتها، مهووسة هي الأخرى بالسلطة، وأثبتت أنها غير مؤهّلة للحكم، ولا تؤمن بالمؤسّسات والانتخابات، بعد تفويتها فرصة تأسيس المجلس التشريعي، ورقتها الرابحة، ورهانها الخاسر على حركات متمرّدة أدارت ظهرها لأهل دارفور وارتمت في حضن حميدتي "عدوها" السابق مقابل حصّة فردية في السلطة والثروة.
سيناريوهات كارثية تنتظر السودان. وكان يمكن تفادي الحرب وما جرّته من قتل ودمار في ظرف وجيز، لو سهر مجلس الأمن على نزع سلاح مليشيات النظام ومساءلة قادتهم وفقا للقرار 1556، ولو حظر فعلا الأسلحة في دارفور بموجب القرار 1591، ولو سهّل القبض على البشير وتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية وفقا للقرار1593، وغيرها من القرارات الزائفة التي تؤكّد مسؤوليته عما حلّ بالسودان، وسورية، وليبيا، واليمن وغيرها من حروب وكوارث أُممية.