ماكرون يحول فرنسا إلى بؤرة إفلاس كبرى

ماكرون يحول فرنسا إلى بؤرة إفلاس كبرى ماكرون ومشهد من القمع والعنف البوليسي ضد المحتجين
من الملفت للنظر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا يدرك أنه يمشي في دروب السياسة بصورة "مشوهي الأزقة"، خاصة أن طريقته في الحكم ليست صالحة للاستعمال الديمقراطي، إذ لم تعد محاولاته للظهور بوجه "السياسي الامبراطوري المتمكن" تنطلي  على أحد، بل بات يتعرض من حين إلى آخر، وفي كل ظهور علني، لوابل من الانتقادات، نظرا للنزق الشامل الذي يصدر عنه، ونظرا لـ"خيار المسرحة" الذي ينتهجه كلما تعلق الأمر بأي مواجهة سياسية.

باختصار إن ماكرون "رجل مسرح"، محب للأضواء، حتى لو اقتضى الأمر ارتداء زي المهرج. ذلك أنه يتكئ على  قوى خارجة عن الإطار المعتاد: قوة الظهور المسرحي،  و"قوة الوهم الإمبراطوري"، وأخيراً القوة الكلامية للقفز على الحقائق والوقائع"؛ وهي قوى تحتاج إلى "بلاغة" من العيار الثقيل، وهذا ما انتبه إليه الكاتب الفرنسي، في كتابه الثاني عن ماكرون بعنوان "ماكرون أو الأوهام الضائعةـ دموع بول ريكور". ذلك أن الرئيس ما زال يحمل "وهما كبيرا" بأن فرنسا هي مركز العالم المتحضر، وأنه الممثل الشرعي لـ "الذكاء الأوروبي"، وقد عاينا ذلك في محاولاته التي لا تنقطع من أجل تمويه التوحّش الرأسمالي للتوغل في إفريقيا على سبيل المثال، عبر تمرير "فلسفات أخلاقية وإصلاحية غائمة" في الفعل والخطاب. فبحكم ماضيها الاستعماري، ما زال ماكرون "يعتقد" أن فرنسا تتوفر على أوراق كثيرة لإعادة بسط نفوذها في القارة السمراء. بيد أن النفوذ الفرنسي سجل تراجعا ملحوظا، نظرا لانخراط دول أخرى في السباق، فضلا عن السخط العام الذي يعتري الفاعلين السياسيين والعسكريين الجدد في إفريقيا على التوجه الماكروني المفرط في التعالي.

لقد ظن ماكرون أن "البلاغة" والتعالي على الشركاء سيعيد لفرنسا حضورها الاقتصادي والتجاري القوي في القارة الأفريقية، وظن أن "الابتزاز" هو الحال لإدخال المغرب والجزائر إلى الحظيرة على النهج "الدوغولي" بتأجيج التوتر بين البلدين والإمساك بخرطوم الإطفاء لاستعماله في إخماد نار هو مشعلها، والحال أن الدوغولية في التعامل مع الشأن المغاربي أصبحت متجاوزة بفعل الواقع.

لقد نسي ماكرون أن فرنسا الأمس ماتت مع تنامي نزعات "التمرد" في كل من مالي وبروكينافاصو والنيجر، مما يعني أن هناك نزيفا متواصلا أمام الممانعة الداخلية للدول الإفريقية، حيث تهاوت جاذبيتها أمام الفشل في جلب الاستقرار لمناطق انتشارها بالقارة، بل إن هذا النزيف ازداد تفاقما مع تراجعها داخل تكتلي "المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا" و"المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا". أما الضربة القاضية، فستأتي لحظة الشروع في التعامل بـ "الإيكو" (العملة البديلة عن الفرنك) سنة 2027،  مما يغني فك الارتباط المالي بين "المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا" وفرنسا، وهو ما سيكبد ماكرون خسائر هائلة.

وإذا أضفنا إلى هزائم ماكرون المأخوذ بمنصبه الرئاسي ظهوره المتقزم والصغير أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وخسارته المدوية إعلاميا أمام رئيس الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي، حين خاطبه قائلا: "انظروا إلينا بطريقة أخرى.. باحترام كشريك حقيقي، وليس بنظرة أبوية وإملاءات"، فضلا عن انكماشه الذريع والفظيع أمام الرئيس الصيني شي جين بينغ، حين جاء إلى بيكين ليطلب التوسط لدى بوتين وإقناعه بالتوقف عن الحرب في أوكرانيا. 

ثمة هزيمة أخرى تخص الشارع الفرنسي؛ فقد أثبت ماكرون أنه يجيد إخراج الفرنسيين إلى الشارع للاحتجاج والسعي إلى التغيير. فقد نجح سنة 2018 في إشعال حركة السترات الصفراء، وإخراج 300 ألف شخص للاحتجاج في الشارع في جميع أنحاء فرنسا، إلى درجة أن الاحتجاج  غدا "بصمة شخصية" تحدّد مسارات رئاسته، وأصبح شرطا أوّل للعب السياسي الشامل الواسع، خاصة أن ماكرون نجح في إقناع "الطبقة السياسية"- مع حق الاستثناء طبعا- بأن الليبرالية الهوجاء هي الدرب المستقيم إلى "الرفاهية"، والحال أن السخط هو العنوان الأبرز لكل الاختيارات الماكرونية، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وليس أدل على ذلك من  إصدار ماكرون لقرار يقضي برفع سن التقاعد من 62 سنة إلى 64 سنة، وذلك دون تمرير القرار على البرلمان لأخذ موافقته عليه، بدعوى أن هذا القرار سيوفر لخزينة الدولة 18 مليار يورو بحلول عام 2030.

لقد أدى هذا القرار، الذي تم خارج القنوات الديمقراطية المتعارف عليها، وخارج الشراكة والحوار الاجتماعي، إلى اندلاع جولة مظاهرات عنيفة. وبات في حكم المتوقع أن تعقبها جولات أخرى من الصراع  بين ماكرون ونقابات العمال والمستخدمين على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية والطبقية. وهو الصراع الذي تقول كل المؤشرات أنه لن يحسم في معركة واحدة، وأن الاشتباك قد يأخذ منحى آخر يحول فرنسا إلى بؤرة إفلاس كبرى داخل أوروبا.