لم يُبْتَلَ المغاربة بحكومة “حارقة” فقط، بل أيضا بمعارضة خالية الوفاض تستلذ الإقامة في الانتظارية وترقب “السقوط المفترض” لرجال أخنوش العاجزين عن ابتكار حلول لأزمة غلاء الأسعار، والمتقاعسين عن تنزيل إجراءات لمواجهة التضخم، من قبيل “فرض ضوابط جديدة على الأسعار، إعفاءات ضريبية غير مباشرة على بعض السلع، رصد تحويلات نقدية أو مساعدات مالية للأسر المعوزة...”.
إنها ليست فحسب معارضة ضعيفة ومنكمشة أمام أغلبية “متغولة” تَحْكُمَ وتُسيِّر، دون مقاومة، ودون اعتراض أو تعرض، بل إنها تقع “خارج روح الدستور” ما دامت لا تصحح ولا تنتقد ولا تُراقِب، ولا تضع نصب أعينها المصلحة العليا للبلاد، بصرف النظر عن وجودها داخل البرلمان، وبصرف النظر عن تحولها إلى “ظاهرة بلاغية” لا علاقة لها بأي صراع سياسي أو صِراعُ الأفكار، ولا بأي مواجهة فعلية بين المشاريع والبرامج والكفاءات.
ولهذا، فإن المتتبع لا يسجل فقط الشطط الحكومي في تدبير الشأن العام، وفي تعميق الجرح الاجتماعي، والقفز على كل الحواجز التي من شأن تجاوزها توسيع رقع التوتر وتهديد الاستقرار الوطني. بل يسجل تخلي المعارضة عن القيام بأدوارها، ودخولها في “تواطؤ” مكشوف مع الحكومة، في لعبة تشبه إلى حد بعيد “مسرح الأقنعة”، إلى درجة أن اللعبة السياسية أصبحت تمارس بلاعب واحد، ودون أي قواعد، ولا اختصاصات، وهو ما أدى إلى نوع من الجمود الحاصل في قضايا حساسة، مثل قضية ارتفاع أسعار المواد الغذائية وقلتها بالأسواق المغربية.
ويرجع هذا الجمود، في الجزء الأكبر منه، ليس إلى التباعد الإيديولوجي بين مكونات المعارضة “اشتراكيون، إسلاميون، ليبراليون”، بل أيضا إلى “الثأر القديم” بين القيادات الحزبية، وإلى التلاسن المتكرر الذي قاد إلى تعطيل وإرباك التنسيق بين أحزاب المعارضة داخل البرلمان. كما يرجع، حسب مراقبين، إلى غياب الكفاءة وتضارب المصالح بين المكونات، إضافة إلى استبداد “الأغلبية متغولة عدديا”، خاصة أن القيادات ما زالت تعتبر أن التنسيق غير ملزم، وأن على كل حزب أن يكتفي بالعناية بمطبخه الخاص، مما حولها إلى “أقلية خرساء” لا تأثير لها في المشهد السياسي ولا أثر، باستثناء تلك البلاغات الباردة التي تسفر عنها اجتماعات المكاتب السياسية لأحزابها، والتي تنسجم في الغالب مع خطاب الأزمة والروح الوطنية وضرورة إيجاد الحلول للمشاكل العالقة والوقوف إلى جانب الطبقات الفقيرة والمهمشة، إضافة إلى تحميل الحكومة كامل المسؤولية في ما سيقع من قلاقل وتوترات اجتماعية . بلاغات تترجم بعمق “وكفى الله المؤمنين شر القتال”، إذ تبقى مجرد أصوات خافتة حول طنجرة الوطن الذي يغلي. بلاغات للتنبيه، كما لو كانت هذه الأحزاب مرغمة على الكلام..
لقد تحولت فرق المعارضة إلى مجرد ديكور سياسي بارد، لأسباب متعددة، لعل أقواها يتصل بالاختلالات الداخلية لأحزابها، خاصة أنها استفرغت من كوادرها، وتعرضت بقوة للاستنزاف، علما أن “المعارضة القوية” تحتاج إلى طاقات قوية وفاعلين أقوياء يجعلون منها قوة اقتراحية ضرورية لترسيخ واستمرارية المسار الديمقراطي.
صحيح أن حكومة “الأحزاب الثلاثة”حشدت إلى صفها 270 مقعداً من مجموع مقاعد مجلس النواب وعددها 395 كما أنها تتوفر على أغلبية مريحة في الغرفة الثانية. لكن الصحيح أيضا أن فرق المعارضة تتوفر على 124 مقعدا، وهو ما يضعها في تحدي كبير بوسعه أن يقلب على الحكومة “الطاولة” لو لم تكن هشة ومشتتة وغير منسجمة سياسياً وإيديولوجياً، إن لم نقل ميتة سريريا، و“بايعة الماتش” فعليا، ومستلذة للإقامة في انتظارية لا أول لها ولا آخر ولا تجيد إلا النظر في تاريخ الخصومات والبكائيات، كما يفعل زعيم الإسلاميين عبد الإله بنكيران الذي يطلق نيران لسانه في كل الاتجاهات، مأخوذا بالتهميش الذي لحق حزبه، كما لحقه هو شخصيا، بعدا كان ظل يعتلي المسرح رفقة عفاريته وتماسيحه لمدة غير وجيزة.
قد يقول قائل إن المعارضة الحالية لا يمكنها سوى الخضوع لاستبداد حكومة تمتلك أغلبية مريحة. غير أن هذا الكلام مردود عليه ما دامت هذه المعارضة تقدم، بصمتها المريب، دعما سياسيا بـ “التقسيط المريح” لحكومة أخنوش، حكومة “المحروقات” و“الزيادات في الأسعار” و“قهر المواطنين”. فالمعارضة تتوفر، دستوريا، على هوامش كثيرة للتحرك، في البرلمان، وأيضا من خلال وسائل الإعلام، وفي الفضاء العمومي أيضا، من خلال خبرائها ومثقفيها وسياسييها، وأيضا عبر انخراطها الفعلي في إطلاق نقاش عمومي حول مقترحاتها واجتهاداتها وبرامجها، وعبر التحرك مع الفاعلين الاجتماعيين الآخرين، بما فيهم مسؤولي النقابات والجمعيات. ذلك أن المعارضة تعني، في العمق، التحيز إلى قضايا المواطنين وتأطيرهم وتعبئتهم، فضلا عن القدرة على تحريك الشارع إذا دعت الضرورة إلى ذلك، خاصة أن المغرب مقبل على مرحلة صعبة، كما ذهب إلى ذلك أحمد الحليمي المندوب السامي للتخطيط الذي دعا الحكومة إلى قول الحقيقة للمغاربة بخصوص الأزمة الغذائية الحالية وغلاء الأسعار، حيث أكد على أن “التضخم محلي وليس مستوردا، وأنه حقيقة هيكلية للاقتصاد المغربي”، وأن “الحل هو ثورة لتغيير نظام الإنتاج”.
وهنا يطرح السؤال بقوة، لماذا تتحرج المعارضة من استغلال الهوامش المتاحة لها؟ لماذا ترفض القيام بأدوارها؟ ما السر وراء خفوت صوتها، مما فتح المجال أمام “معارضة أخرى” بالغة الخطورة تتغذى على الاحتقان الاجتماعي، مما قد يقود إلى “انفجار” بوسعه أن يهز أركان البلاد؟.
لقد سبق لونستون تشرشل أن قال، حين كان رئيسا لوزراء بريطانيا: “لو لم تكن هناك معارضة لخلقناها”، وذلك إدراكاً منه لأهمية المعارضة في الديمقراطيات الحقيقية، فماذا سيقول أخنوش وهو محاط بمعارضة معطوبة ومعاقة على جميع المستويات، بل بمعارضة ما زالت بعض مكوناتها ترى أن مكانها الطبيعي هو الحكومة لتنزيل “النموذج التنموي الجديد”؟ ماذا بوسعنا القول أمام هذا النوع من المعارضة الذي يتدافع من أجل انتزاع مكان له يعتبره طبيعيا في الحكومة الحالية، وأن هذا المكان سُلب منه بسبب “الكولسة” وترتيبات الظل، وليس بسبب التموقع السياسي أو الإيديولوجي؟ ماذا بوسعنا القول أمام معارضة تتبارى من أجل تطبيق نفس البرنامج الذي تقول الحكومة إنها بصدد تطبيقه؟ ماذا بوسعنا القول عن معارضة ترى أنها في هذا الموقع، ليس لأنها ذات رؤى واستراتيجيات تتعارض مع المخطط الحكومي، بل بسبب “خصومة“ قديمة مع رجل قوي في الدولة؟.
لقد أثبتت التجارب الديمقراطية أن الرهان على ضعف المعارضة المؤسساتية يفسح المجال أمام تسرب معارضة تنبت بالشارع خارج كل تأطير، وخارج المؤسسات، وربما خارج المجتمع، وهو ما يشكل تهديداً لاستقرار النظام والدولة، والدال على ذلك هو الدفع بالمواطن إلى فقدان الثقة في جميع مؤسسات الوساطة، كما وقع خلال حراك الحسيمة وجرادة، حين تراجعت الأحزاب والنقابات والجمعيات، وتركت الحبل على الغارب لتنزيل أجندات غامضة بتغليف محلي ينهض على “المطالب الاجتماعية”.
لقد خول الدستور (2011) للمعارضة مجموعة من الصلاحيات تجعلها شريكاً في وظيفة التشريع والمراقبة ورئاسة اللجان، غير أن واقع الحال يؤكد أن المعارضة الحالية مصابة بإعاقات متعددة تجعلها عاجزة عن القيام بهذه المهام والحقوق بالجدارة اللازمة، حتى مع الصلاحيات والحقوق المنصوص عليها قانونا وهذا يقودنا إلى طرح سؤال يكتسي أهمية كبرى” هل تعي المعارضة ضعفها وتدرك مأزقها الوجودي؟ لماذا جعلت من هذا الضعف “منطقة راحة” لا تريد الخروج منها؟ هل المعارضة هي الصراخ في الجلسات العامة، أم أنها بالفعل عمل تشاركي لإنجاح التجربة الديموقراطية؟ ما موقعها من المطالب الشعبية؟ وهل وضعت إجراءات مضادة للسياسات الحكومية غير الشعبية؟ وهل هي قادرة على تقييم التدابير الحكومية بعين ناقدة، ومساءلة الحكومة على أدائها، وصيانة حقوق المواطنين وضمان أمنهم واستقرارهم؟.
تفاصيل أوفى في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"