عبد اللطيف برادة: مدينة تشي جيفارة الملعونة

عبد اللطيف برادة: مدينة تشي جيفارة الملعونة عبد اللطيف برادة
قد اضحى السباق على أشده في المدينة
وكأن الناس تركض هربا من الإبادة الشاملة
لا أحد يعرف اي وجهة يتخذ
يتساءل سكان المدينة عن العدم والوجود
لقد تحطمت كل الجدران وتبخرت كل الآمال؟
الكل أضحى قلقًا بشأن الهاوية التي تنتظره على حافة من الزاوية؟
لا أحد يعرف إي منحى يتخذ لكي ينجو بجلده
أين نحن ذاهبون
إنه السؤال العظيم الذي يؤرق جل المفكرين
السماء لعل لذلك لقد رحم الله المدينة بسخاء
فهطل المطر حتى غرقت الاحياء المهشمة في بحيرة
كل شيء مسموح به الآن في المدينة
لقد أصبحت الشوارع ساحات لمعارك دامية
ولقد بلغ الصراع ذروته
كل ما يحتاجه المرء لكي يبرز قدراته هي سيارة فاخرة وسيجار كوبا
دخن ايها الغافل عن مبادئ الحضارة السيجار المستورد من هافانا وسوف تغفر لك كل الاخطاء مع الذنوب الاثمة
فسعيد بحضه كل من خالف القانون وهو يملك سيارة فاخرة
أسرع إذن واسحق من شئت أيها الغني الفاجر
إذا كنت غنيًا، فلقد تصبح بطلا للمدينة
هيا استمتع بجميع الحقوق وسيُسمح لك الاستيلاء على كل ما تشاء من خيرات البلاد
اعلم أن الثروة ستعفيك حتى من يوم الحساب
عليك بسيجارة غفارة ولا عليك من الله أو أيتها قانون والأوغاد
استلب ما تشاء ثم وجه حصص الأموال الى الجزر الآمنة حيث ستعفى من الضرائب
هيا عليك بالاستيلاء على كلما حصلت عليه من الغنائم
لا تدفع ولا تنفع من يمد يده طلبا للنجدة
الرحمة لا تنفع في يوم الشدة إلا الكفر
ادفع لعمالك اجورهم قطرة بقطرة
استنزف دمائهم اسحب أرواحهم
لا تهتم بالأخلاق فذلك مجرد نفاق ايها الافاق
أضحك على نفسك قليلاً واستهزئ وأنت لا تبالي من يذكرك بالله
كل المبادئ الأخلاقية ليست سوى من أوهام الأغبياء
إذا كنت أحد أولئك الذين يدخنون سيجارة جيفارا فلا عليك من كل ذلك
افعل ما تشاء وأقدم على توسيع دائرة التعساء
تأكد بان الله سيغفر لك لان الله يحب الاغنياء
لا تقلق بشأن محيطك الكل سيركع للدولار
إذا أشار شخص ما بإصبعك إليك فسنقطع هذا الإصبع من يده حتى لا يعيد الكره
لا تأخذ بالاعتبار ما يقال حسدا عن الجزر الامنة
فحتى قادة اليسار المتطرف لديهم هناك حسابات دسمة متخنة
افتح حسابك، وستفوز بالجائزة الكبرى غير المقيدة
ما هذه العدالة التي يتحدثون عنها كثيرًا
صراع طبقي، صراع التماسيح في الغابات الاستوائية
صدقني فكلها اكاذيب وكذب على كذب
صدقني العدالة تكون دوما بجانب الرجل الذي يدفع بسخاء لأصحاب المصالح
دخن وأنت لا تبالي بما يقال سيجارة غيفارا
هكذا أصبح جيفارا أيقونة الأغنياء
ومع ذلك، لا يزال الناس يركضون من أجل سراب العدالة والقانون هكذا هم دوما متفائلون
يبحثون عبثًا عن الحلم الذي سيباع بأقل الاسعار
لا شك أن الأغنياء يحبون تشي جيفارا
أنظر إليهم قليلا وهم يدخنون سيجارته بكل اريحية
علاوة على ذلك فهم يذكرون اقتباساته عن ظهر قلب
البؤساء فقط لا يعرفون شيئًا عن جيفارا أو سيجارته
فالأغنياء هم من يتكلمون باسمه علانية
إذا تجرأ شخص فقير وتحدث عن ذلك في الأماكن العامة قد يكون بلا شك مصيره الخواء
الآن اضحى الأوغاد يشترون القمصان وزجاجات العطور المصحوبة بصورته بأسعار لا تقاوم
اه كم أتمنى لو استيقظ جيفارا من قبره
آه لو نهض كي يرى بأم عينه كيف انقلبت الحكاية فأصبح أعداء اأامس هم الأصدقاء
هيا اتركنا من هذا ولنذهب الان في نزهة في أروقة و"الت ديزني"
دعونا نذهب الآن ولنترك جيفارا وأحلامه الوردية
ها هي صوره الوسيمة تباع مع قوارير العطور والقمصان
دعنا نتخلص من كل شيء يقضنا من السبات العميق يا صاح
فلا مجال للحلم الان في مدينة يسكنها التتار
هيا لنزحف مع السلاحف في سباق محموم
انه الماراتون الملعون فلن يتوقف أحدا ولو لثانية
الجميع يركض الى نهاية المطاف
انه لسباق مجنون ومحموم حقًا
الركض مرهق فعلا والمحنة مؤرقة بالطبع
لكن الأصعب هو عدم الوقوف وسط المنصة وضياع فرصة الميدالية الذهبية
ففي المدينة لم يعد أحدا يحب احدا
ففي المدينة قد تتنسم حتى العطر الرفيع برائحة الكراهية
فلا رحمة مع هذه القلوب الفولاذية
ولا حكمة في عقول روضت لكي تصبح سلاسل العبيد
ففي الحقيقة لا يوجد في المدينة سوى البؤس الذي يختبئ خلف واجهات فاخرة
لم تعد هناك شفقة في المدينة
لا أحد يحب السلام بعد الآن ولا أحد مستعدا للحرب
لا أحد يحب المعارك الساخنة لأنهم يريدونها باردة مثل الصقيع
فما نوع الحياة التي يمكنك أن تعيشها عندما تدفع دمًك مقابل شيء يتم بيعه مجانًا في مدن الحضارة؟
هنا في هذه المدينة كل شيء يباع
فالحرية تباع مقابل الخنوع لقوانين جائرة
العمل يباع مقابل خضوع كامل
فان كنت طري المزاج اشتري بدمك تركة الأجداد
وحتى الديمقراطية تباع وبالإقساط في أكشاك المدينة
فالضباع هنا في المدينة تنهش من لحم الطريدة ثم تبيع أشلاء منها عديمة الفائدة
هنا يباع الفراغ على أرائك المقاهي كما يُباع التبغ على سبيل المثال بشكل مشاع
تُباع زجاجات الكحول للكفرة بثمن الماء المقطر
وهي تجارة مزدهرة تدر الاموال بقدر ما يزدهر الكفرة بنهبهم الاموال المختلسة من ميزانية الفقراء
حتى الخمور التي تقتل الجمل وما حمل في ثوان أضحت مرغوبة
البائسة حقيقة لقد أصبح الناس مجرد ألغاز في هذه الغابة
فكل ما يستحق وزنه ذهباً يباع الآن بسعر التراب
في هذه المدينة يدعي كل مجرم سفاح أنه يحب شقيقه
لكن كيف له ان يدعي الحب بقلب اكله الصدئ
كيف يحب من له قلب لم ينبض منذ فترة طويلة
أي من هؤلاء الناس سيفكر بعمق وضميره نائم لا يستفيق إلا لكي ينام؟
الكل يعرف ان الحب الحقيقي يغدق بما لديه دون أن يطلب أي شيء بالمقابل
لم يعد هناك مكان في هذه المدينة لبذور الإيمان ولا لوسوسة الشيطان
الشيطان قد اوكل الانسان مهامه وتقاعد
لا مكان لمن لديه ثقب اوزون في جيبه وحلم كبير في رأسه
لا مكان لأحد يملك في صدره قلبا من ذهب وفي عقله حلم ضائع
في المدينة لا يوجد أصداء لشاعر
في مدينة ليس فيها ظلال أشجار فلا مشاعر ولا قلب
وحتى الطيور هاجرت من اوكارها الى مدن بها إخضرار الجنة
هنا في المدينة كل من يدعي الحق سيموت مصلوباً
قد يتحدث الشاعر عن المساحات الخضراء والمراحيض عامة للتبول
لا أحد سيصغى اليه في مجلس المدينة؟
يحق لتجار الممنوعات فقط رفع أصواتهم لكن صوت الشاعر يشطب من القائمة
اللصوص وحدهم وقطاع الطرق سيتسلقون سلم المجد
المارق يخطو كالطاووس فيكاد ينطح برأسه الناطح السحاب
وتلك اللعينة ستنتصب بقامتها كبرج ايفل متصلبة فوق مسامير كعبيها وتقول ما تشاء بلكنة باريسية
هؤلئك السكارى سيسمحون لأنفسهم أن يلعنوا السماوات السبع والقديسين اجمعين بلا عقاب
فمهما قالوا لن يطاردهم أحدا من هؤلاء الملاعين
الجدران التي ستستمع إلى هذه الكلمات لن تشير إليهم
لكن في هذه المدينة محكوما علي الشاعر بالانزواء كالظل
يجب عليه الانتظار الى يوم قيام الساعة
سينتظر بكامل الصبر مجيء الخلاص
في هذه المدينة حكم على الشاعر بالصمت مدى الحياة
هي الحكمة لمن لا يسعى للاستمتاع بطعم المدينة أو بنعمة ابتسامة الأغنياء المتميزين
وهو داك الذي كان بالأمس موضوعًا للتباهي أصبح اليوم مجرد أضحوكة
كانت له احلام لكن اليوم اضحى أكثر تواضعًا
قاموا برسم وجهه على جميع الجدران بشفاه معقوفة وعلامة استفهام تستقيم في وجهه على شكل الأنف
هذه هي الطريقة التي يجعلوا بها الشخص الذي كان يبدو كنجم قطبي مجرد نكتة بالية
فتحولت أشعاره إلى فراشات طائرة تتدلى من شفاه فرس النهر
الشاعر الذي كافح وناضل كثيرا أصبح يتمنى المغادرة بدل العيش بين الاوغاد
لقد قرر الاوغاد قتله بالبطيء المريح
ففي كل مرة يتم تحديد موعد لوفاته يعتذر فيه القدر
كل مرة كان يبدو فيها عزرائيل مشغولاً بالرد على هاتفه الخلوي
هكذا امتلأ وجه الشاعر بالحزن والندم على ما فات
منذ ذلك الحين غير رأيه وأراد تغيير مصيره
فيما يلي بعض الملاحظات التي وجدناها في مذكراته:
أتمنى لو لم أكن هذا الملاك الساذج الذي ضحك على ذقنه
أود الان أن أتعلم كيف أقتل بقلب اشد من صلب الفولاذ
أتمنى لو كنت قد تعلمت مثل أي مجرم محترف كيف أصبح ثريًا في اقل من ومضة
وكيف اتملق لهؤلاء الانتهازيين كي اصل إلى القمة؟
أتمنى أن أفعل ما يفعله الاشباح الآخرون فلا من يعارض
لذلك أود أن أقرع الكاس منع صديق يهاب كل ليلة، واكتسب القدرة لرجل يأمر فيطاع
كنت أرغب في تقوية روابطي مع هذه المرأة الامرة فاعتلي أعلى الهرم
لذلك اختار الشاعر على مضض الابتعاد عن المدينة التي لم تعد تشرق فيها الشمس
وألان يعيش في مكان امن لا يوجد به أدنى شيء يجذب الانتباه
هنا فقط عدد قليل من عربات الحنطور لها حق عبور الطريق
هنا لا يكتظ بطن الشارع بالمارة
هنا لقد تم التخلص من الاختناقات المرورية
هنا تفوح الامكنة برائحة البساتين
هنا طرق المدينة ليست مليئة بالثقوب وكأنها مصابة بالجذام
لا توجد فنادق هنا
ولا متاجر من فئة الخمس نجوم
عندما يمر الشاعر لا يبصق الشارع دخانه في وجهه
هنا يكفي للشاعر ان يطل من النافدة لكي يتأمل زرقة الأفق واخضرار الحقول
وسوف يتابع تلك النجوم وهو يبتسم من دون حرج للقمر المكتئب
أو ربما سينتظر مجيء الأحباء حيث لم يعد هناك أحباء
فسيتساءل فتتكاثر الأسئلة