عبدالحميد العدّاسي: بصمةٌ تسبقُ بصمةً

عبدالحميد العدّاسي: بصمةٌ تسبقُ بصمةً عبدالحميد العدّاسي

حدّثني أحد إخوتي المقرّبين، ممّن كانت لهم نافذةٌ على دنيا بعض النّاس، أنّ أولئك الإخوة -وقد لَحدوا أباهم - ساروا إلى البيت منكّسين رؤوسهم واجمين، يتمثّلون ما يلاقي أبوهم في عزلته، ويتمنّون له نجاحا باهرا في الامتحان ذي الأسئلة الثّلاثة. يرجون لروحه رحلة طيّبة واستقبالا حارّا من طرف الملائكة الكرام، عامري السّماوات، حيث التّغنّي بطيب رائحتها والثّناء عليها وعلى حاملها.

كانوا يستعرضون قائمة الحضور الذين صلّوا وشيّعوا، يخبّؤون لهم جميلا سوف ينزلونه زمن الاعتراف لهم بالجميل. توقّف أخوهم فجأة فتوقّفوا؛ إذ الظّرف يقضي برصّ الصّفّ وتنزيل ما كان الأب يرغب فيه للولد، من حيث رؤيتهم متضامنين متآلفين يؤثر كلٌّ منهم بقيّتَهم على نفسه... قال: نسيت شيئا في المقبرة عسى أن أدركه فأعود. قالوا: نعم!

لم يقربوا سُفرة هُيّئت أو يتناولوا شيئا قُدِّم، بل ظلّوا ينتظرونه مكترثين لأمره، لا يريدون أن يرى أبوهم - وهو ميّت - منهم ما رأى يعقوب عليه السّلام من أبنائه مع يوسفَ أخيهم. مرّت نصف ساعة، فساعة، فقرابة ساعتين! داخلتهم الوساوس فخرجوا جميعا مسرعين ينشدون أخاهم يفدونه بأرواحهم... لم يعترض سبيلهم ولم يلحظوا وجوده مع بعض التّجمّعات التي زامنت على الجنبات مرورَهم. فلمّا بلغوا المقبرة حرّضتهم هيئة القبر على الإسراع، فقد كانت تربته مثارة وكان لحده منزوعا.

وصلوا، فإذا أخوهم مكبوب على وجهه فوق أبيه.

ذكروا اغتمامه أيّام أبيهم الأخيرة وربّما حسدوه على المرابطة الطّويلة بجواره، ثمّ تفهّموا وقرؤوا المشهد مخفّفين من الوقع، هُياما رفيعا لا يأتيه إلّا بارٌّ بأبيه عاشقٌ له متفانٍ في حبّه.

كان أخوهم أيّام أبيهم الأخيرة حريصا جدّا على الاختلاء به دون أن يسمح له الظّرف بذلك، فقد تعلّق الأهل كلُّهم به حتّى منعه الْتِفافُهم حوله الاختلاءَ به، ويوم سنح الظّرف بالخَلْوَة، كان أبوه وقتها نشطا كما لم ينزل المرضُ المُمِيت ساحتَه، فما كانت الخَلْوَة مؤدّية لغرضها ولا كانت تسمح بالبواح ولو سلوكا بما يسكن النّفسَ... فلمّا رجع المشيّعون وانفضّت الجموع وأجلس الملكان أباه  يسائلانه واختلى به عملُه يبشّره بالمصير، انتبه الأبناء إلى برّ أخيهم يكبّه على والده، يقبّله - كما بدا لهم - بعد أن أماط عنه ما أهيل عليه... استغربوا وربّما تمنّوا - غير مدركين - بلوغَ مستواه الذي لم يبلغوه. وضعوا أيديهم عليه مربّتين يرقّقهم الحنانُ، فما استجاب الأخ لتربيتاتهم ولا حتّى لِهَمَساتِهم،فحرّكوه، فإذا هو ساكن لا حراك به، وحين قلبوه كانت يدٌ تمسك بالإبهام ويد أخرى تمسك بورقٍ مرقون عايشت كتابتُه أيّام الاحتضار.

جاء أخوهم من ورائهم بعيدا عن أعين النّاس يأخذ بصمة والده دون رضاه لإمضاء وصيّة تحرم - بطريقة غير شرعيّة - إخوته من الميراث!

لم تستجب البصمة، فقد عطّلتها كينونةُ تلكم البصمة البليغة الماضية: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌۖ فَإِذَا جَا أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَٰٔخِرُونَ سَاعَةٗۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَۖ] (الأعراف: 32)!..

هالهم مشهدُ الغد، يوم يُبعث أخوهم ماسكا بإصبع أبيه، وأبوهم البريء يخاطب ربّه: ربّ اسأله لِمَ يأخذ بإبهامي؟ فقد صحّ عن الحبيب ﷺ (يُبعث كلَ عبد على ما مات عليه)!.( 1).. نسأل الله السّتر وحسن الخاتمة.

 

(1) ابن حنبل: مسند أحمد- حديث رقم 14767- ج5- ص 1979