انقسم القواد وترددوا، فمنهم من انضم إلى جانب الْهِيبَةْ، ودعمه بالرجال والسلاح كـ "الْحَاجِّي" قائد الشياضمة، و "حَيْدَةْ أمِيسْ الَمْنَابْهِي"، و "عَبْدْ السَّلَامْ الْبَرْبُوشِي الرَّحْمَانِي". وعند دنو الْهِيبَةْ من مراكش خرج قواد الحوز الكبار؛ المدني الَـﯕْلَاوِي و الَمْتُّوﯕِي و الْعِيَّادِي لاعتراض طريقه ومجابهته، لكنهم عدلوا عن مواجهته، واستقبلوه، بينما بقي القائد الْكَنْدَافِي يراقب تطور الأحداث، ويصف لنا صاحب المعسول هذا الاستقبال:
« خرج الفقيه السيد المدني الـﯕلاوي وأخوه القائد التهامي، والقائد العيادي الرحماني لمدافعته (يعني الهيبة)،فلما تراءى الجمعان فشلت عساكرهم شأن غيرهم من غير طعن ولا ضرب، وانقلبوا من المدافعة إلى المداهنة والمهاداة، فتلقوه بالهدايا بنحو عشر كيلومترات من مراكش وقيل أن الـﯕلاوي أهدى إليه خمسين عبدا كل عبد بفرس، وعلى رأس الجميع مائدة مملوءة بالنقود الذهبية والفضية، وأن القائدين المتوﯕي والرحماني فعلا مثل ذلك».
أزمة الرهائن الفرنسيين:
ومع دخول الْهِيبَةْ إلى مراكش بداية شهر رمضان 1330هجرية الموافق لشهر غشت 1912م قام باحتجاز مجموعة من الفرنسيين المتواجدين بمدينة مراكش، وعلى رأسهم: القنصل الفرنسي مكريت "MAIGRET "، والدكتور كيشار "GUICHARD" والضباط: هارينغ " HARING، هانيس "VERLET- HANUS" وكوادي "COUADIT".
وقد بدأ الصراع بين الْهِيبَةْ والفرنسيين بأزمة الرهائن التي جعلت القواد مترددين. لجأ القائد العيادي إلى الوساطة بين الطرفين لحل هذه الأزمة، وحاول إطلاق الرهائن بتقديم فدية مالية، لكنه فشل في مسعاه، بعد أن رفض الْهِيبَةْ تدخله ليستعمل الرهائن كورقة ضغط، ويحول دون تقدم القوات الفرنسية اتجاه مراكش.
ساهمت قبائل الرحامنة الى جانب أبناء عمومتهم من الجنوب المغربي في المعارك التي قادها المجاهد الهيبة وأخيه مربيه ربه، فكانت مواجهة القوات الفرنسية يوم 24 غشت 1912 مقرب أربعاء الصخور الرحامنة، ويوم 31 غشت كانت معركة ابن جرير، قبل معركة سيدي بوعثمان الشهيرة التي انهزم فيها الْهِيبَةْ يوم 06 شتنبر من نفس السنة، وكان دخول القوات الفرنسية بقيادة الكولونيل مونجان.
القطيعة مع الاستعمار: ثورة الملك والشعب
عرف المغرب سواء بالمدن أو البادية أزمات اقتصادية متكررة، وانتشر الوباء، وعم الجفاف والمجاعات سواء خلال الثلاثينيات أو الأربعينيات من القرن العشرين، حيث تضاءل المنتوج الزراعي وتضاعفت أثمان المواد الغذائية، ومع توسع الملكيات الخاصة للمعمرين هاجر الذين لا يملكون أرضا بحثا عن وسيلة للعيش نحو المدن المجاورة. ويمكن اعتبار الهجرة كحركية اجتماعية زعزعت البنية القبلية كإحدى أهم معالم التحولات الاجتماعية التي أدت إلى بروز "طبقة هشة" ناشئة تقطن مدن الصفيح داخل المدن و خاصة بمدينة الدار البيضاء.
كانت هذه الشروط هي التي اشعلت المقاومة المسلحة، وقد وصلت الأزمة مع الحماية الفرنسية أوجها في العقد الخامس من القرن العشرين وخاصة بعد أزمة 1953م، التي كانت منطلقا لثورة الملك والشعب. وكانت مؤامرة الإقامة الفرنسية العامة بتحالف مع بعض القوى المحلية التي استعملت كآلية لما سمي بعملية "التهدئة" مع بداية الحماية. فكما استخدمت من أجل التوغل داخل البنيات المغربية، استخدمت أيضا كأداة لوقف التحول نحو تحرر المجتمع من الهيمنة الفرنسية. ولأنها انتعشت مع الاستعمار، فإنها - مجسدة في بعض نماذجها - حاولت عرقلة هذه الحركية بتوقيع الوثيقة التي تبعد السلطان الشرعي محمد الخامس عن العرش، ونفيه خارج المغرب.
خلال هذه الأزمة مع إدارة الحماية كانت الرحامنة تحت قيادة القائد العيادي الذي بقي مخلصا لسلاطين المغرب، فمنذ أن منحه السلطان مولاي عبد الحفيظ ظهير تعيينه قائدا على الرحامنة، بقي وفيّا لكل سلاطين المملكة المغربية من بعده: مولاي يوسف، محمد بن يوسف (محمد الخامس) وهذا الوفاء لكل سلطان شرعي هو الذي سيحدث القطيعة النهائية بينه وبين الإدارة الاستعمارية.
لقد عارض القائد العيادي الرحماني عزل ونفي السلطان الشرعي، وقد حاولت الإقامة العامة أن تدمجه في حلفها لمواجهة الحركة الوطنية وعلى رأسها السلطان محمد بن يوسف، لأن نفوذ قواد الجنوب ـ وخاصة، العيادي و الـﯕلاوي - كبير في منطقة تمتد من الحوز إلى الشاوية، لتشمل مدينة مراكش التي لعبت دورا سياسيا بارزا في تاريخ المغرب. هذا النفوذ سيساعد الفرنسيين على تحقيق مخططهم الذي رسموه، إلا أنهم فشلوا في إقامة هذا التحالف، فبينما تمسك التهامي الـﯕلاوي بمؤامرته إلى جانب الفرنسيين، اختار القائد العيادي الرحماني الإخلاص للسلطان الشرعي، فكانت القطيعة النهائية مع الادارة الاستعمارية.
إن فترة الخمسينيات تمثل مرحلة جديدة بالنسبة للقائد العيادي الرحماني، الذي راجع مواقفه المساندة للحماية الفرنسية، وتحول إلى خصم عنيد رفض المشاركة في الخطة الاستعمارية التي اقتضت تنصيب سلطان جديد لا شرعية له، وعارض نفي محمد الخامس إلى جانب القائد لحسن اليوسي والبكاي باشا مدينة صفرو، الذين امتنعوا عن توقيع الوثيقة التي تعطي مشروعية للمؤامرة الاستعمارية.
لم يقف القائد العيادي عند هذا المستوى بل أنه في نفس اليوم الذي تم فيه تنصيب محمد بن عرفة "سلطانا"، ترأس حركة انضم إليها إلى جانب الرحامنة المقاومون من قبائل المنطقة، ودخلت مدينة مراكش حيث كانت المواجهة مع رجال الـﯕلاوي. هذه الحركة التي شجعت حركات مثيلة في مدن أخرى، وكانت بادرة على فشل المؤامرة الاستعمارية وابتعاد العيادي عن حلف التهامي الـﯕلاوي.
نتيجة لهذا الموقف الوطني، تعرض القائد العيادي للاعتقال من طرف الإقامة العامة، وتم نفيه إلى فرنسا وبعد أشهر عاد إلى المغرب، ولأنه لم يعترف بشرعية "السلطان" المعين خضع للإقامة الجبرية بمدينة الدار البيضاء مدة سنتين، وتم تقسيم قبيلة الرحامنة أثناء غيابه إلى ثلاث قيادات جعلت الإقامة العامة على رأسها بعض مساعديه.
لقد اشتدت المقاومة بمنطقة الرحامنة، وبعد عودة الملك محمد الخامس ترأس القائد العيادي القبيلة التي قدمت الولاء وتجديد البيعة للملك محمد الخامس، وأعلنت التشبث بمقدسات الوطن من أجل الجهاد الأكبر في البناء والتنمية.
شاركت كل القبائل المغربية شمالا وجنوبا في المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، واستمرت القبائل بالصحراء المغربية كالرْقِيبَاتْ وتَكْنَةْ، والْعْرُوسِيِّينْ، والسْبَاعِيِّينْ، وأهل ماء العينين، وفِيلَالَةْ، ويَكُّوثْ، واستمرت في جهادها ضد الاستعمار الإسباني بالأقاليم الجنوبية بعد استقلال الأقاليم الشمالية من السيطرة الفرنسية، وانخرطت في صفوف جيش التحرير الذي خاض الكثير من المعارك في الأقاليم الجنوبية، ونذكر هنا على سبيل المثال معركة أيت باعمران يوم 30 يونيو 1969 م التي انتهت بتحرير سيدي إفني ولمع الكثير من المقاومين عبر الأجيال الذين انخرطوا في ملحمة الاستقلال، وملحمة استكمال الوحدة الترابية، الى حدود تحرير أقاليم الساقية الحمراء ووادي الذهب بالمسيرة الخضراء.
خاتمة:
لقد ارتبطت المقاومة في عرف القبائل المغربية بمفهوم الجهاد باعتباره واجبا وطنيا، ودفاعا عن مقدسات الأمة المغربية التي استمرت قرونا عديدة بفعل تلاحم مكوناتها عن طريق البيعة الروحية التي جمعتها بالسلطان باعتباره أمير المؤمنين، وحامي الدين والوطن.
ولعل هذه الفترة المعاصرة من التاريخ المغربي غنية من حيث الأحداث والوقائع التي تدل على استمرارية الدولة المغربية ضمن نسق الوحدة والتحرير منذ ان تأسست الدولة الادريسية، وما تزال الى اليوم. لذلك فان مجال البحث والتنقيب والتأريخ واسع امام الباحثين لسبر أغواره، وتوثيقه للأجيال القادمة.
الأستاذ عمر الإبوركي باحث في علم الاجتماع
انتهى