لقد رُتِّب كل شيء في الظل لإرجاع المغرب إلى بيت الطاعة، واجتمعت الأذرع السياسية والاستخبارتية في دهاليز قصر الإليزيه من أجل العمل على كسر رغبة الرباط في الانطلاق بعيدا عن إملاءات «المستعمر». فرنسا لم تستستغ أن يكون محرك الاقتصاد المغربي من صنع محلي، ولم تقبل أن يتحول «التابع» إلى منافس قوي على الساحة الإفريقية، ولا أن يكون قراره السياسي سياديا أو مستقلا؛ فكان من الطبيعي أن يتحرك «العقل الكولونيالي» المغلوب على أمره في كل اتجاه لتجنيد «سناريست محترف» من أجل كتابة سيناريو محبوك يضع «البلد المارق» في منطقة الخطر، ويُعَجِّل باستسلامه وإعادته إلى الصف بالإكراه المُبين.
لقد شِيء لهذا السيناريو أن يكون «تلويثا» لسمعة المغرب على المستوى الدولي، وأن تكون موسيقاه التصويرية على الإيقاع «الفضيحة الإعلامية». حيث تجندت عدة منظمات ووسائل إعلام مأجورة، بما فيها بعض الصحف الكبرى، مثل «لخدمة أجندة معروفة» و«ذي غارديان» و«واشنطن بوست» من أجل رفع منسوب الانفجار إلى أعلى مستوى، حين ادعت دون أي دليل أنّ الاستخبارات المغربية استخدمت برنامج «بيغاسوس» الذي طوّرته شركة «إن إس أو» الإسرائيليّة، للتجسّس على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأعضاء في حكومته، فضلا عن نحو 30 مسؤولا في مؤسّسات إعلاميّة فرنسيّة.
لقد كان الغرض المضمر من «المؤامرة» هو إدخال المغرب، الذي انتزع اعترافا دوليا بقدراته الأمنية والاستخبارتية الفائقة، إلى «حقل سلبي» يجعل كل منجزه في هذا المجال مختزلا «العمل التجسسي» على قادة العالم. والحال أن «الاستخبار» هو تقفي وتتبع وجمع وقدرة ومهارة في تحليل المعلومات الواردة لإنتاج معلومات استخبارية تخدم الأهداف العليا للدولة، وتُسهم في تحقيق أهدافها الاستراتيجية. هذا هو «الاستخبار النافع» الذي يحصن المصالح الوطنية، ويحمي الأمن القومي للبلد ويمنع عنها أي مخططات ضارة أو أي عدوان خارجي. بيد أن خطة «بيغاسوس» المكشوفة أرادت أن تقدم المغرب كدولة بوليسية ترهب الناشطين السياسيين والحقوقيين، وتستبد بحقوق الصحافيين، وتستأسد على المعارضين، بل إنها لا تتورع عن التجسس على قادة العالم المتحضر، وتحاول أن تفرض «قانونها» على أوروبا!!. ولإنجاح هذا المخطط الذي لا ينطلي إلا على «الحاقدين» و«المأجورين»، كان لا بد أن تواكبه جوقة مختارة من قارعي الطبول والصنوج، فضلا عن ردات فعل «مخدومة»، إذ ما معنى أن يسارع الناطق الرسمي باسم الحكومة الفرنسية، جابرييل أتال، بمجرد انطلاق التفجير الإعلامي الفاشل لقضية بيغاسوس في يوليوز 2021، إلى القول، خارج كل الضوابط الديبلوماسية المعروفة، «إن الرئيس إيمانويل ماكرون غير هاتفه ورقمه في ضوء ما جرى الكشف عنه في قضية برنامج بيغاسوس للتجسس»؟ وما معنى أن يضيق «إن فرنسا قررت تعديل إجراءات التأمين، وخاصة تلك المتعلقة بتأمين الرئيس ماكرون في ضوء القضية»؟
لقد اتضح منذ البدء أن استهداف المغرب في أقوى جهاز له «الاستخبارات»، لم يكن مجرد «شدّ قوي لأذن بلد متمرد»، كما اتضح أن بيغاسوس ليس إلا ذريعة تشبه إلى حد بعيد أكذوبة «امتلاك أسلحة الدمار الشامل» التي استعملها جورج بوش لغزو العراق.
هذا ما أدركه المغرب مبكرا، لأن «أوركسترا الفضح» أجرت بروفاتها الأولى دون أن تتوقع أن المغرب على اطلاع تام بتفاصيل المعزوفة، ومن يقف وراءها، وما هي غاياتها الدنيئة، وما هي أسبابها؟
لقد أراد مخرجو فيلم «بيغاسوس غيت» أن يجبروه على الارتطام بـ «تسونامي جبار» لن يخرج منه سليما، لكن عرف كيف يحوّل هذا التسونامي إلى فقاعة علقت بأنف أصحابها. فالمغرب كان على دراية تامة بأنه مستهدف منذ أواخر سنة 2020، وهذا ما كشفت عنه مذكرة تحليلية أنجزتها إيزابيل فيرينفيلس، الباحثة بالمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، وهي مذكرة سرية بعنوان «التنافس المغاربي على أفريقيا جنوب الصحراء»، توصي بضرورة كبح جماح المغرب وعرقلة نموه الاقتصادي، وعدم السماح له بأن يصبح أقوى مغاربيا، خاصة أمام النمو الاقتصادي البطيء للجزائر وتونس.
وكان هذا التقرير قد سجل أن المغرب يتقدم بوتيرة سريعة، تاركا وراءه جارتيه الجزائر وتونس، وهو ما يفرض وضع حد لطموحات الهيمنة المغربية للتخفيف من الديناميات السلبية للتنافس، خاصة أن هذا الوضع يمثل خللا في التوازن بين البلدان المغاربية الثلاثة.
لقد ألزمت توصيات المعهد الألماني فرنسا، ومعها دول الاتحاد الأوروبي، بتوضيح علاقاتهم مع دول شمال إفريقيا على أساس تقليص الهوة بينها، ومراجعة العلاقات الاقتصادية مها على النحو الذي يبطئ التطور المتسارع للمغرب على حساب جاريه، وتحديدا على حساب الجارة الجزائر التي فقدت البوصلة تماما، وأصبح حكامها بشعرون باللاجدوى.
فما العمل إذن؟ وما هو السلاح الذي يمكن للأوروبيين أن يستعملوه ليبرروا حربهم «المقدسة» على المغرب، خاصة أن المغرب «دفأ» كتفيه باعتراف أمريكي ثمين بـ «مغربية الصحراء» كما أخذ يحظى باحترام أغلب دول العالم على مستوى الثقة والشفافية، الأمر الذي دعا دولا كانت تصطف إلى جانب «الكراغلة الأشرار» «حكام قصر المرادية» إلى مراجعة مواقفها والإعلان على نحو لا مراء فيه عن تبنيها لمقترح الحكم الذاتي، وعلى رأس هذه الدول ألمانيا وإسبانيا وبلجيكا. ولم يتبق من رؤوس أوروبا الكبار إلا فرنسا التي تعتبر أن التقارب مع الجزائر «ورقة ابتزاز» رابحة، وأن نزاع الصحراء شوكة في حلق المغرب، كلما رغب في إعلاء صوته السيادي يمكن تحريكها ليركن إلى الصمت والتراجع، والحال أن «المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها»، ولا يمكن لأي مغربي قح أن يتخلى عن أي شبر منها، ولو أشعل البرلمان الأوروبي، بإيعاز فرنسي مكشوف، آلاف البرامج التجسسية في وجه الرباط، من قبيل «بيغاسوس» و«فليكسيسبي» و«غاسبيرسكي».. إلخ.
لقد حاول البرلمان الأوروبي النيل من المغرب عبر إصدار توصية تدينة في قضايا حرية التعبير، كما حاولت لجنة الخبراء الأوروبية التابعة للبرلمان الأوروبي وضع المغرب في الزاوية الضيقة عبر مناقشة التحقيق في «احتمال» تورط المغرب في التجسس عبر بيغاسوس. لكن تلك المحاولة باءت بالفشل حين تبين المراقبون أن البرلمان الأوروبي، وبدافع من جماعات الضغط الدائرة في فلك الدولة العميقة بفرنسا والمتغولة، أصدر قرارا حتى قبل أن ترفع إليه اللجنة المكلفة بالتحقيق نتائجها، الأمر الذي يدل على أن «ديمقراطية أوروبا» أصبحت حساء فاسدا، وأن فرنسا الهائمة بالغاز الجزائري تريد إبطال «التموقع الجديد للمغرب في الساحة الدولية» بأي طريقة من الطرق، حتى لو كان ذلك على حساب مؤسسات الاتحاد الأوروبي الأخرى، وعلى حساب الشراكة الاستراتيجية والوضع المتقدم الذي منحه الاتحاد الأوروبي للمغرب سنة 2008.
إن قضية بيغاسوس، وهي تأخذ كل هذا الحيز، يراد لها أن تُعجل بعودة المغرب إلى «حظيرة» باريس، وأن تكتفي الرباط بدور «المناول» كلما تعلق الأمر بإفريقيا، خاصة أن المغرب تحول إلى أول مستثمر في غرب إفريقيا، مع حضور سياسي وديني وأمني وازن، وهو ما تعتبره باريس مسا بهندستها السياسية وانتزاعا لدورها الكلاسيكي في مد جسور أوروبا مع القارة الإفريقية، في ظل المنافسة الشرسة لأمريكا والصين وروسيا وتركيا، فضلا عن اليابان والبرازيل.
إلى ذلك، رفع المغرب العديد من دعاوى تشهير على صحف مأجورة »لوموند، لوكانار أنشيني، ذا غوارديان.. إلخ»، وعلى منظمات من الثابت أنها مجرد أداة غير بريئة «مثل منظمة العفو الدولية و«فوربدن ستوريز»...»، وكلها لم تقدم أي دليل على تورط المغرب في قضية التجسس، بل أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن البرمجية الخبيثة الوحيدة في هذا الملف هي محاولة توريط المغرب، ليس بالحجة والدليل، بل عبر «مكبرات الصوت» ومحاولة التدنيس والتلويث، إكراما للغاز.. ولأعداء النجاح.