يقولون في السفر سبع فوائد، وأقول إنه بالنسبة للصحافي هو ثمان أو تسع فوائد...الصحافي وهو مسافر لا يغمض عينيه إلا وهو نائم. فضوله المعرفي والمعلوماتي والخبري يحفزه على الاكتشاف والسؤال والحوار والتواصل.
عيناه ترصدان كل شيء يمكن أن يفيد القارى والمتتبع.
في هذا السياق، تنشر جريدة "أنفاس بريس"، حلقات يومية عن مظاهر الحياة بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي يوميات للزميل محمد شروق من مدينة ميامي ونواحيها، ميامي( ولاية فلوريدا)، عاصمة الترفيه والشواطىء الجميلة والشمس والخضرة والنخل والأشجار، والشواطىء القريبة من كوبا ومن دول أمريكا اللاتينية.
الحلقة الثالثة:
في مخيال كل مغربي أمريكا هي القوة الاقتصادية والعسكرية هي الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان في الخارج والديمقراطية هي السينما والموسيقى والرياضة..
نعم هي كذلك إلى حد بعيد لكن لهذه البلاد وجها آخر صاحبة أكبر اقتصاد في العالم..
في أمريكا هو وجه بئيس يقدمه المتشردون الذي يصل تعدادهم بالآلاف.
في مدينة دايفي davie القريبة من مدينة ميامي حوالي 25 كلم، ظاهرة المتشردين نساء ورجالا، بيضا وسود، حاضرة بقوة..
حاولت الاقتراب منهم، واخترت سرد قصة أحدهم وهي حكاية تختزل الكثير من حكايات المشردين المؤلمة.
بضع دولارات كانت كافية كي يفتح "جيريمي" (39 سنة)، قلبه لجريدة "أنفاس بريس".." جيريميّ كان متزوجا يسكن ببيت فيه أربع غرف، ودخله السنوي يتجاوز بقليل 70 ألف دولار..كان يتاجر في السيارات ثم انتقل إلى التجارة في قطع غيار الناقلات..
توسع تجارته فكان يملك أربع سيارات واقتنى باخرة صغيرة..
لكن كل شيء توقف لديه كورونا وكان ضحية مثله مثل العديد من الأمريكان..توقف نشاط القطاع الذي يشتغل فيه وعاش بفضل المساعدات التي قدمتها الحكومة الأمريكية.
إشتغل فيما بعد في شركة للأدوات الإكترونية. لكن أجره المتواضع دفعه إلى بيع سياراته الأربعة، الواحدة تلو الأخرى ثم الباخرة وفي الاخير اضطر إلى بيع البيت حتى لا يتم الحجز عليه من طرف البنك ويباع في المزاد.فقد كان مطالبا بأداء 2500 دولار شهريا للبنك المقرض.
فقد جريمي المبلغ المالي الذي تلقاه مقابل بيع السكن الوحيد، وانفصل عن زوجته، فلم يجد الا الشارع كملجأ..إختار مكانا قريبا من الطريق ونصب خيمة صغيرة يعيش فيها رفقة صديقته المتشردة..يخرج من خيمته ويقف إلى جانب الإشارات الضوئية طلبا لبعض الدولارات..
التشرد في أمريكا ظاهرة مخجلة
تقارير رسمية تؤكد حوالي وجود 580 ألف شخص متشرد في الولايات المتحدة الأمريكية، البلد المدافع عن حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية والمنادي بمساعدة المشردين بالعالم.
فأغنى دولة فى العالم تضم أعلى نسبة مشردين من النساء والأطفال، تسلب حقوق الإنسان وحريته، ولا توفر مأوى للمشردين الذين أصبحوا يعيشون على هامش المجتمع وينتشرون فى كل مكان، يُصارعون الحياة أملا فى إيجاد مأوى في بلد يبدو البقاء فيه للأغنى فقط.
إن التشرد ظاهرة تنتشر فى كل دول العالم وتسعى الحكومات للسيطرة عليها، إلا أنها فى أمريكا خرجت عن نطاق السيطرة، وبلغت أعداد المشردين أرقاما قياسية، وأصبحت خيام المشردين منتشرة فى الشوارع والأنفاق والحدائق العامة، بل إن معظمهم يتخذ من عربات القطار وصناديق القمامة مأوى لهم. وحيال ذلك، عجزت سلطات المدن عن القضاء على هذه الظاهرة، ولا يجد المتشردون يد العون إلا من خلال مساعدات محدودة وخجولة من جمعيات خيرية ودينية مستقلة.
وبحسب تقارير رسمية، فإن معدلات التشرد تشهد الارتفاع كل سنة، حيث بلغت نسبة الزيادة 2% بين عامي 2019 و 2020، وبلغت نسبة زيادة المتشردين ممن لا مأوى لهم 7%، ويعاني ما يقرب من 6 من كل 10 أشخاص من عدم وجود مأوى وذلك فى المناطق الحضرية، كما أنه ولأول مرة منذ البدء فى التقييم من قبل الوزارة الفيدرالية يتم رصد زيادة كبيرة فى عدد العائلات التى لديها أطفال فى الشوارع والميادين بلغت 13%.
كما رصد تقرير 2020 زيادة فى نسبة عدد المشردين من قدماء
المحاربين بين عامي 2019 و 2020. 2020.
فئة الشباب من المتشردين وصلت لنحو 34 ألف شخص تحت سن 25 يعانون من التشرد،90٪ تتراوح أعمارهم بين 18 و 24 عامًا، 75% ذكور مقابل 25% إناث.
وهكذا يتضح من التقرير الرسمي بما لا يدعو مجالا للشك، ارتفاع معدلات التشرد بين فئات المجتمع الأمريكي المختلفة، خاصة الأقلية العرقية، فهي المهددة الأكثر بالتشرد فى أمريكا، والمعرضة للمعاملة القاسية واللاإنسانية.
لكن المؤكد هو التناقض الكبير بين تعداد المشردين الفعلي والإحصاءات الرسمية.
ويتبين لنا، وفق تقارير لبعض الصحف الأمريكية والمؤسسات الحقوقية، أن أعداد المشردين الفعلية حاليا فى الولايات المتحدة الأمريكية تتجاوز الملايين.
فظاهرة التشرد تزداد سنويا فى معظم مدن الولايات المتحدة الأمريكية بنسب وصلت لـ40%. مما يجعل أمريكا تضم أعلى نسب مشردين فى العالم.
وأفاد تقرير نشر على موقع صحيفة "لوس أنجلس"Los Angeles Times عام 2019 ، أن قرابة 8 ملايين أمريكي فقدوا منازلهم خلال الركود الاقتصادي وفي أعقابه، كما نُشر تقرير فى 2020 عن تداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد الأمريكي، وفقد ملايين الأمريكيين لوظائفهم، والذى يؤكد أن المشردين في الولايات المتحدة قد يزيد عددهم بنسبة 45 % خلال عام.
وبحسب تقرير المركز الوطني لتعليم المشردين، فإن نسبة الطلاب الذين يعيشون بلا مأوى شهدت زيادة بلغت 140 % ، حيث إن أكثر من مليون ونصف طالب في المدارس العامة في الولايات المتحدة قالوا إنهم مشردون وبلا مأوى.
إنتهاكات في حق المتشردين ومن يساعدهم؟
وتمادت السلطات الأمريكية فى ممارسة مزيد من الانتهاكات بحق المتشردين، حيث استهدفتهم بالسجن، والقتل والصعق بالكهرباء بدلا من التخفيف من حجم معاناتهم، فضلا عن اعتماد الكثير من الولايات الأمريكية العديد من القوانين التى تجرم بشكل مباشر وغير مباشر الأشخاص المشردين والأشخاص الذين يحاولون إطعام المشردين في الهواء الطلق، فالسجن ودفع غرامات مالية كبيرة يكون فى انتظار من يقوم بتوزيع الطعام على المشردين في الحدائق العامة لأن ذلك يُعتبر “جريمة”، مثلما حدث فى ولاية فلوريدا الأمريكية.
كما أقرت مدينة لاس فيجاس بولاية نيفادا، قانونا مثيرا للجدل يمنع النوم على الطرق العامة مع غرامة مقدارها 1000 دولار وعقوبة بالسجن تصل إلى 6 أشهر، على أن يسري هذا المنع على الطرق العامة فى وسط لاس فيجاس وحتى الأحياء السكنية، مما أثار موجة عارمة من الاحتجاجات تحت شعار “نريد مساكنا لا أغلالا” و“الفقر ليس جريمة”.
“العقاب والسجن الفقراء هما الرد الأمريكي المميز على الفقر في القرن الحادي والعشرين”.
فكيف تدعي الإدارة الأمريكية الاهتمام بمشردي العالم وحقوق الإنسان وجعلهم ذريعة للتدخل فى الشئون الداخلية للدول.
في حين لا تهتم بمعاناة مواطنيها في انتهاك واضح للكرامة إنها سياسة المعايير المزدوجة..