مع انقشاعِ عتمة الفجر، بدأت الكارثة تتضح، جبال الركام ممتدة على طول الطرقات، الدم اختلط بالجدران، وبدأت محاولات انتشال الضحايا، من تحت أسقف منازلهم، التي كانت تحميهم.
ركض أبو إياد ومن معه، إلى منزل الدكتور سليمان محمد المهجر من مخيم اليرموك، إلى الشمال السوري، حيث يقصده الناس للعلاج والطبابة، وهو المعروف "بطبيب الغلابة"، لكنه تخلى هذه المرة عن دوره في إنقاذ الناس، وأخذ دور الشخص الذي يحتاج إلى من ينقذه.
لم يستطع الشباب، أن يستدلوا على منزل الدكتور سليمان فقد سُوّي الحي كاملا بالأرض، بدأوا بالبحث عنه وعن عائلته بين أكوام منزله، هذا المكان الذي طَبب فيه الكثير ممن لم يجدوا طبيباً.
وبعد أكثر من أربعين ساعة من البحث والتنقيب بين أكوام الباطون، وباستخدام المعدات اليدوية البدائية، وجدوا الدكتور أخيراً، وجدوه هو وطفليه وزوجته، لكن كان وداعاً للأبد، توفي الحكيم الذي طالما أنقذ الناس من براثن الموت، ولم يجد من ينقذه هذه المرة.
توفي الدكتور في الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، بعدما قد رفض كل محاولات الهجرة، مفضلا البقاء بجانب أبناء جلدته، ليعينهم ويكون معهم في نكباتهم المتجددة، حيث كان يقول دائماً "إذا أنا رحت، مين بساعد هاي الناس"، رحل تاركا الناس لعذاباتهم.
يأخذُ أبو اياد الغزي، وهو ناشط في هيئة فلسطين للتنمية، تنهيدةً طويلة وهو يروي مشهد الزلزال، ويقول: "لم أرَ مثل هذه الكارثة في حياتي، لغاية الآن لا أصدق ما حصل، إنه حِملٌ ثقيل جداً".
أكثر من عشرين ضحية فلسطينية سقطت جراء الزلزال، من بين نحو ألف وخمسمائة عائلة فلسطينية يسكنون في الشمال السوري، كانوا قد تركوا بيوتهم ومخيماتهم بفعل الحرب، ويعيشون الآن ظروفاً يندى لها جبين البشرية، كأنهم قد خرجوا من فلسطين لتوّهم، ويتخذ معظمهم من الخيم مسكناً له، في حين لا تعيرهم الهيئات الرسمية الفلسطينية، أو الأونروا ولا حتى الفصائل، أي اهتمام يذكر، وبالرغم من هول الكارثة، لم يُجر أي مسؤول فلسطيني، ولو حتى مكالمة هاتفية للاطمئنان على هذا الشعب المشرد.
يضيف الغزي في هذا السياق "عندما رأينا لهفة الهيئات الفلسطينية والدفاع المدني، لتقديم المساعدة في الجنوب التركي، عرفنا أننا منسيون تماماً، العديد من أبناء هذه القضية، ماتوا بسبب نقص المعدات اللازمة لإخراجهم، نحن كتب علينا الموت بصمت".
ومن الشمال السوري، إلى ساحله، وتحديداً إلى مخيم الرمل للاجئين الفلسطينيين، الواقع على الساحل السوري في اللاذقية، ضرب الزلزال، ذلك المخيم أيضاً، وكأن السكان هناك لم يكن ينقصهم إلا هذا الحدث، لتتضاعف معاناتهم.
يسكن مخيم الرمل، أكثر من عشرين ألف نسمة، في أبنية متصدعة ومتهالكة، إلى أن جاء الزلزال، وأطاح بالكثير منها أرضاً، على رؤوس ساكنيها.
في يوم الكارثة، عمل سكان المخيم وحدهم في محاولات انتشال الضحايا، إبراهيم ياسين، أحد شباب المخيم، كان من الباحثين عن بصيص أمل لأحد الأرواح التي مازالت تنبض.
يضرب إبراهيم بالمطرقة، ويعاونه صديقه على إزالة الركام، عندها سمعوا صوتاً وبدأت وتيرة البحث تتضاعف، إلى أن أخرجوا رجلا على قيد الحياة، واتجهوا به للمستشفى، أثناء ذلك كان يحاول أن يلتقط أنفاسه ويناشدهم "مشان الله أولادي".
في اليوم التالي، جاء الشاب على كُرسيه المتحرك، بعدما أصيبت قدماه ولم يعد يقوَ على المشي، لكنه أتى ليشارك بجنازة طفليه وزوجته، كادت عيناه تتكسر من قساوة الدمع الخارج منها، فكم هو قاسٍ أن تنام مع طفليك وهم بأمانٍ في حضنك، لتستيقظ وتراهم جُثثاً، إنه ألم لن تستطيع لغات بالعالم وصفه.
"من رأى ليس كمن سمع" هكذا يصف إبراهيم ياسين، أمين سر حركة فتح في اللاذقية، هول المشهد، ويضيف: "مئات العائلات من سكان المخيم يعيشون الآن في مدارس الأونروا، لأنهم فقدوا منازلهم، هذه العائلات التي لا تملك ثمن قوت يومها أصلاً".
سقط في مخيم الرمل أكثر من اثني عشر شهيداً جراء الزلزال، في حين هناك عدد من المفقودين، وقائمة طويلة من الجرحى، والكارثة تمتد إلى مخيمي حندرات والنيرب في حلب، كما شارك الدفاع المدني السوري والهلال الأحمر، بعمليات البحث، في حين قدمت بعض الجمعيات الخيرية المساعدات والطعام للمنكوبين.
هي كارثة عظيمة تأثر بها الكوكب أجمع، لكن ولأنهم فلسطينيون تزداد حدة الكارثة، إذ يطلب الفلسطينيون سواء في الشمال السوري أو في ساحله، كلمة طيبة من قيادتهم الفلسطينية، تُشعرهم أنهم ليسوا وحدهم، كما يحلم هؤلاء، أن يكون لهم بيت يؤويهم من نكبة متجددة.
عن مؤسسة زوايا للفكر والإعلام