محمد يسين: حديث صورة الإبريق

محمد يسين: حديث صورة الإبريق محمد يسين وصورة الإبريق
استهوتني الصورة (صورة الإبريق) لغرابتها من جهة، ولكونها حمالة لقراءات متعددة، حين نغوص في دلالة المبنى والمعنى، من جهة ثانية ...
براد من الجيل القديم، حين أتأمل شكله،تسبح ذاكرتي في الوان سقيلة زاهية، من الأبيض كالحليب، للأحمر القاني أو الأصفر الجميل...لا يمكن أن أتذكر هدا البراد، دون أن يسطع أمام ناظري لهيب نار زرقاء منبعث من ذاك " السبيريتو " الألماني الصنع ، الأصفر اللون، النحاسي المعدن.
اقتربت من جدع الشجرة وقد اضحت شبيهة بسيغار كوبي من العيار الثقيل.
خلت هدا يئن من حرارة بمركزه، وتلك تندب حظها التعس، مع نار ملتهبة تلتهم ما تبقى من شجرة تحكي مئات القصص والحكايات.
سألت البراد: هل انت مستريح في هدا الموقد الفريد؟
صاح متدمرا: لو كان بقدرتي، لسلقت ايدي من أشعل النار في غير موطنها...ووضعني هكذا في حالة شرود.
تأملت، قلبت الأمر على أكثر من وجه، قلت لبرادي المتدمر: لا أظنك عن لهيب النار غريب، أو عن جنس الخشب الملتهب بعيد.
نفث هواء ساخنا حارقا، خلته يقول:
يا عجوز، لا تقهرني النار فأنا من حرارتها شكلت، وللهيبها مستقبل...هي أصبحت لا ترهبني، ولا اخافها.
قلت للبراد الفريد: أين يكمن الإشكال، وانت ترى غير ما ارى.
حينها أدكت النار لهيبها، مشتعلة أكثر على رأس جدع الشجرة، صدرت عن البراد زفرة صعد معها بخار راسما ما يشبه السهم، كادت يدي تحترق حين مررت بها فوق البراد.
ارجعت يدي سيرتها الأولى. حاولت التركيز على جدع الشجرة، تذكرت أنها صورة فقط وأنا السابح في الجوار، هالني وجود ما يشبه حية تسعى على جدع الشجرة...قلت في نفسي، لربما كانت تنعم بقسط راحة، حتى استشعرت حرارة النار، فخرجت تستجلي أمر بني البشر، خلتها تستغرب لانقلاب المواقع، احالني استغرابها على تماثل بين هدا المشهد، ونحت لفنان مقتدر، لقطعة شجرة ،حيث شكلها امرأة حسناء، حمالة لكل دلالة ودلالة على أهمية الشجر والغابة بأنواع خشبها وكل ما تناسل منها من أدوات للمعرفة والابتكار والقراءة وتسجيل ذاكرة للتاريخ، حز في نفسي أن تطمن ذاك الجدع المسكين حركة بلهاء من متجول أبله...أحالني المشهد على مفردات من قبيل الوطن، سبحت مخيلتي بين الموطن والتوطين، بين البراد والوطن، بين الشجرة والجدع، بين جدع الشجرة والسيغار، بين كل هذا ولهيب النار النازل لجدع الشجرة. من جهة، ومجسم تلك المرأة الولادة للحياة هناك وراء البحار. صاحت أناي مستغربة متسائلة، كيف أدرك أولئك وراء البحار قيمة الغابة والشجر، وكونها منتجة للمعرفة، حافظة للذاكرة والتاريخ، من خلال ما تجود به من أدوات وأوراق ورفوف للمكتبات، فعيد كتابة التاريخ وضبط منازله ومراته، وكيف غاب عن بعض القوم هنا، مزية الغابة والشجر، فصارت أيديهم للتدمير أقرب...
حين كثر اللهيب، وبخار البراد فوق جدع الشجرة، وحفيف الافعى تحت الجدع، جمعت ما تبقى من قواي، واعطيت ساقي للريح ...لعلي أدرك حصة شطرنج، تقيني آفة النسيان، وتدمير الزهايمر لمناطق في أدمغتنا، كل ذلك حتى لا أدرك نسيان الوطن وما حمل، او لهيب النار وما طبخ...