تقدم أمال بنبراهيم، باحثة في العلاقات الدّولية والدّبلوماسية، مقاربتها المتعدّدة من زوايا تناظرية حول العلاقات الرّوسية الإفريقية وموقع المغرب من زيارة لافروف.
وبرأي الباحثة بنبراهيم، فإن هاته المقاربة المتعدّدة ينبغي قراءتها في مستويات ثلاث، أولها تاريخ العلاقات الروسية الإفريقية، وثانيها «ما المنتظر من قادة القارة الإفريقية من زيارة لافروف؟»، وثالثها «روسيا والمغرب... مستقبل العلاقات مع شريك أوروبي استراتيجي».
وفي ما يلي المقال التّحليلي للباحثة المغربية أمال بنبراهيم
في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، قد يلفت انتباه المتتبع للشأن الروسي اهتمام موسكو المتزايد بإفريقيا، في محاولة لإيجاد موطئ قدم لها بالقارة من خلال الترويج لنفسها كوسيط أمني لمواجهة "الإجماع الغربي" والتسويق لصورة "المدافع عن إفريقيا"، معتمدة على الترويج لنفسها كشريك موثوق، قادر على تقديم بديل للهيمنة الاستعمارية الغربية، من خلال بناء علاقات قائمة على شراكات رابح- رابح، خاصة في المجال العسكري كون القارة الإفريقية تمثل سوقا مهمة وواعدة للأسلحة وعقود التدريب والتطوير العسكري وهو ما يفتح أمام موسكو مجال البحر الأحمر وفرصة لتعزيز وجودها في البحر المتوسط.
العلاقات الروسية الإفريقية بين الأمس واليوم
الواقع أن الاهتمام الروسي بإفريقيا وإن كانت كرسته حاجة موسكو لحشد دعم الدول الإفريقية للتمكن من تجاوز العزلة الدولية التي باتت تعيشها عقب غزوها أوكرانيا، إلا أنه ليس وليد هذه الظرفية الاستثنائية. فاهتمام روسيا بالقارة الإفريقية يعود إلى سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حيث كانت روسيا السوفيتية تدعم حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار الغربي، إلا إن انهيار الاتحاد السوفياتي فرض عليها الانكفاء على سياسة البناء الداخلي والانعزال عن الخارج ، وهو ما أسفر عن تراجع في العلاقات التي تربط الطرفين على المستويات الاقتصادية والثقافية والعسكرية، وتراجع معه دعمها للعديد من الدول الإفريقية وإلغاء المساعدات والمنح والمشاريع نظرا للتداعيات الاقتصادية التي خلفها سقوط الاتحاد السوفياتي.
هذا التراجع لم يلغ فكرة اختراق القارة، حيث تعود إليها اليوم بدافع براغماتي تغذيه الرغبة في إعادة تموقعها، وتعزيز شراكاتها الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية الثنائية. وهو ما أصبح ملموسا بتغير منحى السياسة الخارجية الروسية بإفريقيا ابتداء من سنة 2000، إذ بدأت التفاعلات مع القادة الأفارقة، وشرعت موسكو في تنفيذ دبلوماسيتها الجديدة "المتعددة الأقطاب"، والتي بصمتها الزيارات التاريخية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كل من جنوب إفريقيا والمغرب سنة 2006، وتقوت في السنوات الموالية باكتساب العلاقات بين الجانبين دينامية أكبر، من خلال الزيارات الرسمية المتبادلة مع عدد من دول القارة كالجزائر وإثيوبيا والغابون وغينيا ومصر ونيجيريا، بالإضافة إلى مشاركة روسيا في عدد من البرامج الإنمائية بالقارة، ونشرها لترسانة كبيرة من الشركات المتعددة الجنسية بها كمجموعة رينوفا ومجموعة ميشيل بجنوب إفريقيا التي تعتبر الشريك التجاري الأكبر لروسيا بالقارة، وروسال وسيفرستال بغينيا، بالإضافة إلى إرساء مشاريع استثمارية هامة بزمبابوي وأنغولا وزامبيا والموزمبيق وغينيا والغابون وغيرها في مجالات النفط والمحطات النووية وإنتاج الماس...
هذا التواجد تعزز عسكريا بإبرام اتفاقيات في مجال الطاقة النووية وتصدير الأسلحة، وتنامي الدور العسكري الروسي في المستعمرات الفرنسية السابقة كمالي وبوركينا فاسو ، بالإضافة إلى برمجة مناورات عسكرية بحرية بين روسيا والصين وجنوب أفريقيا، كل هذا أثار بشكل كبير حفيظة دول الاتحاد الأوروبي، التي ترى في تزايد النفوذ الروسي بإفريقيا محاولة للتضييق عليها في مناطق نفوذها، خاصة مع سعي روسيا الحثيث إلى تعزيز التعاون في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والعسكرية والإنسانية بالمنطقة، وهو ما من شأنه أن يزيد من توتر العلاقات بينها وبين واشنطن والاتحاد الأوروبي، ويهدد بأن تصبح القارة الإفريقية مسرحا لحرب باردة جديدة وساحة للصراع بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من جهة وروسيا وحليفها الصيني من جهة أخرى، لا سيما مع اشتداد الحرب الروسية الأوكرانية ورغبة الكرملين في حشد دعم دول إفريقيا للاصطفاف إلى جانب موسكو وسط إدانة الدول الغربية للحرب في أوكرانيا وفرض عقوبات عليها.
جولات لافروف ....ما المنتظر من قادة القارة الإفريقية؟
في الوقت الذي تسعى فيه أوكرانيا إلى تعبئة الدعم الإفريقي لـ "خطة السلام" التي اقترحها الرئيس فولوديمير زيلينسكي على زعماء مجموعة العشرين في نونبر الماضي، انطلق وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في جولة إلى عدد من الدول الإفريقية التي تعتبر استراتيجية في المنطقة، بغية حشد الدعم لموسكو.
الزيارة التي تهم كلا من جنوب إفريقيا وأنغولا وإريتريا ومملكة إسواتيني وبوتسوانا في مرحلة أولى، تليها زيارة مرتقبة شهر فبراير المقبل لدول شمال إفريقيا (المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا)، تأتي في سياق جيوسياسي حرج لموسكو، لكنها ومع ذلك لا زالت تتمتع فيه بالكثير من نقاط القوة أهمها هيمنتها على الأمن الغذائي بالقارة (33% من واردات إفريقيا)، وحضورها العسكري المباشر وغير المباشر في العديد من الدول الإفريقية، ناهيك عن كونها مزودا رئيسيا للسلاح بالمنطقة، فوفقاً لوكالة تصدير السلاح الروسية الرسمية تستورد القارة الإفريقية نصف الأسلحة من روسيا، خصوصاً في الجزائر ومصر ونيجيريا وتنزانيا والكاميرون.
ومن هذا المنطلق، تسعى روسيا من خلال هذه الزيارات إلى استغلال نقاط قوتها الآنفة الذكر لكسر الحصار الأوروبي المفروض عليها، خاصة وأن عددا من دول القارة فضلت عدم مساندة العقوبات المفروضة عليها والتزام الحياد، كما تحاول من خلال الجولة تقديم رؤيتها للنظام الدولي الجديد، وتحصين علاقاتها مع الدول الإفريقية قبل المصادقة على مشروع قانون أمريكي يفرض عقوبات على الدول التي تتعامل مع روسيا، ناهيك عن أن زيارة لافروف لجنوب إفريقيا تتسم بطابع خاص حيث تسلمت هذه الأخيرة رئاسة البريكس من الصين، ومن المنتظر أن تلعب المجموعة دوراً في قيادة عملية ترمي إلى إحداث آليات جديدة لاتخاذ القرارات على صعيد الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى من أجل إقامة نظام عالمي أكثر شمولا وعدلا واستدامة.
روسيا والمغرب... مستقبل العلاقات مع شريك أوروبي استراتيجي
قد يتساءل الكثيرون عن المغزى من إدراج المغرب كمحطة من محطات جولة لافروف المرتقبة في فبراير، خاصة وأن المغرب يعتبر شريكا استراتيجيا للاتحاد الأوروبي، بالرغم من الأزمات التي تهيمن في الوقت الراهن على العلاقة بين الطرفين.
من الواضح أن روسيا واعية بالدور المركزي الذي يلعبه المغرب بالمنطقة وتأثيره المتزايد بإفريقيا، لاسيما بغرب القارة سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي، ناهيك عن أهمية موقعه الاستراتيجي كبوابة للقارة الإفريقية والبحر الأبيض المتوسط، وكمنصة حيوية للتنمية، وكمدافع عن مصالح القارة واستقرارها، دون إغفال مكانته كشريك استراتيجي للاتحاد الأوروبي، واستقراره السياسي والأمني، وتبنيه لسياسة تنويع الشركاء ضمن مقاربة براغماتية واقعية، وهو ما يدفع بموسكو إلى خلق علاقات متوازنة مع المملكة، نظرا للدور الذي يمكن أن تضطلع به في إنجاح التواجد الروسي بالقارة، خاصة وأن المملكة المغربية أبانت عن حكمة واحترام لشركائها الاستراتيجيين في تدبير الملفات الحساسة، وحرصها على اتخاذ مواقف متوازنة مع الأقطاب الاستراتيجيين، وتبني الحياد في العديد من الملفات الشائكة وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية.
من جانب آخر، فإن روسيا باعتبارها شريكا استراتيجيا للجزائر خاصة في مجال توريد الأسلحة، تدرك جيدا أن المغرب حسم خياراته الاستراتيجية وربطها بالموقف من الصحراء المغربية التي أصبحت منظار المملكة الذي تنظر به إلى أي شراكة مستقبلية، وهي بحاجة اليوم إلى الدعم المغربي خاصة لتصريف فائض الغاز ومصادر الطاقة، وإلى تطوير تعاونها معه من أجل تنزيل خارطة طريقها بإفريقيا، وتوسيع قاعدة استثماراتها به في مجالات متعددة. لذا، فموقفها من الوحدة الترابية المغربية يشكل علامة فارقة في مسار تطور العلاقات بين الطرفين، لاسيما وأنها عضو في مجلس الأمن. ومن هذا المنظور، فإن زيارة لافروف للمملكة ستشكل مناسبة لتحديد الإطار الجديد للعلاقات بين البلدين خاصة في ظل تذبذب العلاقات الروسية الجزائرية، وتقاطع مواقفهما في العديد من الملفات والقضايا.