لحسن العسبي: يا بدر، يا شاكر، يا سياب، أين هو العراق؟

لحسن العسبي: يا بدر، يا شاكر، يا سياب، أين هو العراق؟

 

في أية أزمة مركبة، شديدة التعقيد، ابحث دوما، وأنت تحاول الفهم، عن المستفيد من تلك الأزمة. وما يتسارع من أحداث بشكل هتشكوكي في العراق، يستوجب مثل هذا الإنتباه، ويفترض مثل هذا السؤال: من المستفيد من ذلك التسارع وتلك التطورات؟

لكن قبل الجواب عن هذا السؤال الكبير، لنطرح الأسئلة الأخرى الصغيرة والبسيطة: من أين جاء كل ذلك السلاح المتطور إلى الجماعات المسلحة العنيفة التي تعرف اختصارا ب «داعش». وهل داعش وحدها التي هناك؟ ولم ذلك الإصرار على ممارسة عنف ضد مدنيين عزل في سياراتهم أو مكبلين، يصنف ضمن جرائم الحرب، بل تصويره ونشره بعد ذلك على نطاق واسع عبر الأنترنيت؟. أليست الغاية هي الترويع؟. أليس في ما ذهب إليه وزير الخارجية الألماني، فرانك والتر شتانمايير، بعض الحجية، حين اعتبر أن على المنتظم الدولي أن يوقف عملية تحويل بلاد الرافدين، بلاد سومر، إلى حديقة خلفية يصفي فيها الآخرون حساباتهم بلغة الدم؟ أليس مهما هنا التساؤل من هم الآخرون هؤلاء الذين يعنيهم رئيس الديبلوماسية الألمانية: هل إيران، هل تركيا، هل إسرائيل، هل دول الخليج؟..
واضح أن بغداد أمام خطر وجود، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وأن بلدا إسمه العراق، في طريقه لربما للزوال. لأن الكثير من التطورات ببلاد المامون، تفتح الباب مشرعة لمثل هذه الخلاصة المؤلمة الخطيرة. بالشكل الذي يجعل خرائط جديدة تولد هناك، تكاد تضع خط النهاية للخرائط التي صنعت بعد اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة سنة 1906. نعم، هو سيناريو مرعب، لكن حسابات القوى الإقليمية الجديدة، المتقاطعة مع حسابات القوى الدولية الوازنة، في بدايات القرن الجديد، تجعل الإستراتيجيات تتعدل بشكل غير متوقع ولا منتظر. ولعل من يعتقد فقط أن الأمر مرتبط بالتحكم في الثروات البترولية، سيظل ممن لا يزال ينظر إلى الوقائع بنظارات قديمة للقرن العشرين. لقد تغيرت زوايا النظر في القرن الجديد، هناك، وأصبح التحكم في المياه أهم بكثير من التحكم فقط في البترول والغاز، بسبب أن القوى الدولية العظمى قد حسمت أمر احتياطاتها البترولية ونوعتها بالشكل الذي يجعل تكرار نتائج حادث 1973، حين توقف صنبور النفط الشرق أوسطي، بالتوازي مع حرب أكتوبر بين إسرائيل والجيوش العربية، أمرا مستحيلا.
إن السيناريو الصانع للتطورات هناك في ذلك المشرق الملتهب، الذي تزهق فيه الأرواح عبثا، بذلك الشكل المقزز إنسانيا، الذي تعممه العديد من القنوات الفضائية والمواقع الإجتماعية، حيث يصور القاتل عمليات الإعدامات الجماعية وإطلاق الرصاص الحي على السيارات العابرة في طريق الحياة،، إن ذلك السيناريو، هو شئ آخر مختلف عن الذي كان يحرك منطق المصالح في القرن العشرين كله. نعم، لقد دخل ذلك المشرق زمن حروب منابع المياه، وعاد ماضي القوميات، الذي ظل يطمر على امتداد أكثر من قرنين، منذ الزمن العثماني، ليطل برأسه من جديد، يطالب بتصفية حسابات قديمة ظلت مؤجلة منذ حروب ديار بكر، تلك الأراضي القديمة التي تعبرها منابع مياه دجلة والفرات، والتي تلتقي عند البصرة بالجنوب العراقي، بعد أن تعبر كل سورية والعراق. لكن، لم ينسى الكثيرون أنها تعبر أولا بلاد الأكراد، سواء في تركيا أو العراق وسورية؟. ألسنا هنا أمام ملامح بداية تشكل دولة الأكراد القادمة، التي ستكون أشبه برقاص الساعة، الذي يصنع الزمن الجديد للمصالح الدولية هناك؟.
إن التسارع المثير للأحداث في بلاد عشتار وسومر وحمورابي، خاصة بعد بداية بروز ملامح تنسيق أمريكي إيراني غير مسبوق، سيحقق سيناريو غير مسبوق، هو فتح الباب رسميا لاحتلال القوات الإيرانية للعراق غير الكردي، بعاصمته بغداد، الذي سيعزز القوة الإقليمية الجديدة لطهران من أفغانستان حتى اللاذقية السورية وجنوب لبنان. وأن تركيا أردوغان، حين فتحت الباب لمصالحة تاريخية مع عبد الله أوجلان منذ شهور، فلأنها تريد أن تكون الحليف الحامي لمشروع دولة الأكراد القادمة تلك، مما سيحقق لها التحكم في كل منابع المياه بالشرق الأوسط.
واضح أن الأمر أكبر من «داعش» التي ليست سوى حطب معركة، وأن المشرق العربي أمام لحظة انعطافة جديدة، تماما مثلما حدث في بداية القرن الماضي. وسيكون قدر الأجيال الجديدة هناك، أن تكون مادة نتائج تلك الإنعطافة، خلال الخمسين سنة القادمة. لأنه تاريخ جديد يكتب هناك، مهم أن نقرأ يتلمس الجميع الجواب عن يستفيد من كل العنف المتلاحق في العراق. ذلك العراق الذي كم يكبر اليوم صوت شاعره الكبير بدر شاكر السياب، المتعب، الحزين، حين يصيح في قصيدته «العراق»، قائلا:
«
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلده؟
إن خان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه، متى أنام
فأحس على الوسادة
من ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق؟
يا ريح، يا إبرا تخيط لي الشراع، متى أعود
إلى العراق؟ متى أعود؟»..
يخشى جديا أنه لن يعود.. لأن العنوان تغير.. ولأنه يخشى أكثر، أن بلدا إسمه العراق، في طريقه إلى الزوال..