في الوقت الذي تحتفل النقابة الوطنية للصحافة المغربية الأربعاء 25 يناير 2023 بالذكرى الستين لتأسيسها الذي اختارت له شعار" 60 سنة دفاعا عن المهنة والمهنيين"، فإنها تشكل فرصة لاستعادة جوانب من اسهام محمد العربي المساري ( 1936- 2015) الكاتب العام لهذه النقابة ما بين 1993 و1998 قبل أن يعيينه الراحل الحسن الثاني وزيرا للاتصال في النسخة الأولى ل"حكومة التناوب" ما بين 1998 و 2000.
فضلا عن الذكرى 60 لنقابة الصحافة، فإن استحضار فكر المساري، يتزامن مع مرور الولاية الأولى للمجلس الوطني للصحافة، وكذا الإعلان عن مبادرة تشريعية تتعلق بمقترح قانون يهدف بالخصوص إلى " تقوية صلاحيات المجلس ومنحه اختصاصات جديدة.."، وهذا ما يجعل من المفيد جدا التوقف عند اسهامات صاحب مقولة " تغيير العقليات.."، في هذا المجال والاستفادة منها بملائمتها مع التحولات الجارية في هذا الميدان..
فالعربي المساري الذي ظل مؤمنا بأنه بدون تقنين ذاتي مستقل للصحافة والصحافيين، وغياب إعلام حر تعددي وتنافسي، وضمان حرية الصحافة، لا يمكن الحديث عن أية ديمقراطية وتنمية مستدامة بأوجهها المتعددة. فخلال توليه مهام الكتابة العامة للنقابة، كانت دوما حاضرة في مختلف المحطات التي قطعتها الصحافة الوطنية والنقاش الذي طال تشريعات الإعلام وأخلاقيات مهنة الصحافة، خصوصا خلال محطة المناظرة الوطنية الأولى حول الإعلام والاتصال سنة 1993، وإشرافه مباشرة بعد تنصيبه وزيرا للاتصال، على تحيين توصيات هذه المناظرة.
الأخلاقيات في زمن " الصحافة الصفراء".
إذا كانت نقابة الصحافة، قد ركزت منذ تأسيسها، على الدفاع عن حرية التعبير والرأي والصحافة عموما، فإن انشغالها بأخلاقيات المهنة، لم يبرز جليا الا سنة 1993 مع انتخاب المساري كاتبا عاما لها ضمن توجهاتها شيئا فشيئا، صوب مجالات جديدة فرضتها السياقات السياسية والاجتماعية والتغيرات في اهتمامات الجسم الصحفي، ومنها اخلاقيات الصحافة. وهكذا يحسب للنقابة في بداية تسعينيات القرن الماضي، كونها كانت سباقة إلى إثارة العديد من المشاكل الناجمة عن خرق أخلاقيات المهنة من لدن ما كان يسمى ب” الصحافة الصفراء” التي كانت تستهدف الحياة الخاصة للأفراد خصوصا المحسوبين على المعارضة آنذاك.
وبادرت النقابة في مارس 1993 إلى إنشاء “لجنة أداب المهنة ” بعضوية شخصيات إعلامية وزانة منها المهدي بنونة (1919 – 2010 ) مؤسس وكالة المغرب العربي للأنباء، ومحمد العربي الخطابي (1929 – 2008 ) وزير اعلام أسبق والصحفي مصطفى اليزناسني، ( 1939 -1919 ) مدير جريدة “المغرب”، لتسهر على إعمال ميثاق شرف، يتضمن تسعة بنود، مستمدة من المبادئ الكونية لحرية التعبير وحقوق الإنسان، ومن مقومات العمل الصحفي الهادف الى الإخبار الصادق والنزيه والموضوعي والملتزم بواجب التضامن المهني أيضا.
شروط النهوض بالصحافة
وخلال جمعها العام الثالث سنة 1996، المنعقد تحت شعار “احترام أخلاقيات المهنة وتحسين أوضاع الصحفيين، شرط للنهوض بالصحافة”، قررت النقابة إحداث لجنة ضمن لجانها الدائمة تعني بأخلاقيات مهنة الصحافة، تركز عملها على التنبيه والتحسيس ودراسة والرد على الشكاوى والتظلمات التي تتوصل بها، حول ما يعتبر ممارسات مخلة بشرف المهنة.
وتوج هذا المسار الطويل بتأسيس هيئة وطنية تهتم بحرية التعبير وأخلاقيات المهنة سنة 2002، وهي المبادرة التي شكلت في حينها حدثا بارزا في تاريخ الصحافة المغربية والعربية والإفريقية، بالنظر لأهمية احداث إطار مستقل من هذا النوع لحماية الصحافة والصحفيين، يكون قادرا من جهة على المساهمة في تطوير الأداء المهني، والدفاع في نفس الوقت عن حرية التعبير، على اعتبار أن أخلاقيات مهنة الصحافة وحرية التعبير وجهان لعملة واحدة ولا تناقض بينهما.
وشكل تأسيس هذا الإطار تحت اسم ” الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير ” مرحلة متطورة في مجال أخلاقيات المهنة على المستوى الوطني وتقدما نحو معالجة هذه المسألة بطريقة أكثر نجاعة، تستلهم تجارب الدول الديمقراطية ، وتتوجه باستقلالية نحو معالجة قضايا الصحافيين انطلاقا من تعهدات والتزامات يعملون بأنفسهم على وضعها واحترامها في نفس الوقت.
وغير أن تشكيل هذه الهيئة التي تم تنصيب أعضائها في 19 يوليوز 2002 لم يكن يسيرا، بل تطلب تأسيسها جهدا ووقتا طويلين ونقاشا عميقا ومسؤولا، فرضه طموح المهنيين إلى تأسيس إطار مستقل، اختار الصحفيون عن طواعية، ان تمثل فيه الهيئات المهنية والحقوقية الأكثر حضورا وتمثيلية ومصداقية، بشكل يجعل من معالجة أشكال أخلاقيات الصحافة، مسؤولية مشتركة.
المسؤولية المشتركة
وإذا كانت الوظيفة الأساسية للهيئة قد حددت في رصد الاختلالات المهنية، وتقويم الأداء المهني، والتصدي التلقائي في نفس الوقت للانتهاكات التي تطال حرية الصحافة والتعبير، فان آراءها وقراراتها، كانت تكتسي قيمة اعتبارية تستمدها من الثقة ومن الإجماع اللذين يحظى بها أعضاؤها من طرف المهنيين والفاعلين والرأي العام، وذلك بوصف الهيئة سلطة أخلاقية ومعنوية داخل أسرة الصحافة. فالهيئة وميثاقها يؤكدان على أنها ليست بديلا عن القضاء، كما أن وظيفة القضاء بدورها لا تلغي ولا تحد من صلاحيات الهيئة بوصفها إطارا مستقلا بذاته، فهي غير تابعة لأية جهة سياسية أو حزبية، ولا لأية وصاية حكومية أو طرف من أي جهة كانت.
غير أن مسار هذه الهيئة، التي كانت تتألف من 23 عضوا، تعثر بسبب عدة عوامل، أبرزها - كما جاء في إحدى مداولات الهيئة نفسها وتقارير النقابة- " تقاعس بعض مكوناتها، عن الالتزام بالحضور والمتابعة "، فضلا عن عدم توفرها على أي دعم لوجيستى للقيام بعملها. كما أن طرح مشروع المجلس الوطني للصحافة سنة 2007 في الدقائق الأخيرة من ولاية حكومة الوزير الأول ادريس جطو والذى توقف بشكل نهائي منذ ذلك التاريخ في ظل الخلاف بين الحكومة والنقابة خاصة حول العقوبات السالبة للحرية وبعض مضامين قانون الصحفي المهني. وجمد مشروع المجلس طيلة عهد حكومة الوزير الأول عباس الفاسي، الى أن تم اقرار قانونه سنة 2016.
تحقيق النقلة النوعية
وفي غياب نقاش واسع حول حصيلة المجلس خلال ولايته الأولى، استنادا الى المهام التي أناطه بها القانون في مجال التنظيم الذاتي لقطاع الصحافة والنشر، ودوره في ميدان الوساطة والتحكيم في النزاعات ما بين المهنيين وترجمة بنود ميثاق أخلاقيات المهنة، فإن المحطة الجديدة، بعد الإعلان عن مقترح قانون بمجلس النواب، يتعين أن تستغل - عبر حوار هادئ ومسؤول بين كافة الفعاليات الصحفية والاعلامية والشركاء- في البحث عن السبل الكفيلة بتطوير هذه المؤسسة الخاصة بالتنظيم الذاتي، انطلاقا مما تراكم من تجربة لتجاوز الثغرات التي رافقت عمل المجلس وذلك من أجل تنزيل قانونه الأساسي، لتطوير الممارسة المهنية وصيانتها للارتقاء بالأداء الصحفي، حتى يتحول الإعلام بالفعل الى مؤسسة ديمقراطية وسلطة حقيقية مستقلة، تحظى بتقدير الرأي العام.
بيد أن ذلك لن يتأتى كذلك إلا عبر الانكباب الجاد حول المعوقات الذاتية والموضوعية التي وقفت حائلا دون اضطلاع المجلس بدوره كاملا وكذلك لعدم قيام الصحافة والاعلام بمهامهما الطلائعية على أساس أن يعزز ذلك باتخاذ مبادرات جريئة وقابلة للتنفيذ لتنقية الأجواء وإصلاح الاعطاب والاختلالات التي تعانى منها وسائل الاعلام، بهدف بث الأمل من جديد وبالتالي جعل الحوار حول ورش التنظيم الذاتي هذا عاملا حاسما في تحقيق النقلة النوعية المطلوبة في مجال الصحافة والاعلام القطاع الذي لازال عصيا على الإصلاح منذ محاولات الراحل محمد العربي المساري في النسخة الأولى من حكومة " التناوب التوافقي".
كما يتطلب الأمر أن تتكاثف جهود كافة المكونات كل في دائرة اهتمامه، من أجل ضمان أكبر قدر من هوامش حرية الصحافة وترسيخ منظور اعلامي منفتح ومتطور، يستند على قواعد أخلاقيات الصحافة في ظل الحكامة والديمقراطية، بالتزام بالدفاع عن حق الرأي العام في التوفر على اعلام حر وتنافسي يعكس المقتضيات الدستورية في مجال التعددية ويحتكم لقيم النزاهة والمهنية مع تحسين أوضاع الصحفيات والصحافين وحفظ كرامتهم وصيانة حقوقهم.
فالتحولات في الاعلام المغربي على ضوء الثورة التكنولوجية، أثبتت بما لا يدع الشك في أن الحاجة ما زالت قائمة لاستعادة فكر محمد العربي المساري والقيم النبيلة التي ناضل من اجلها، وما زالت تساءل مكونات المشهد الصحفي والإعلامي؛ لأن النهوض بالإعلام رهين بالحداثة وتطوير وتأهيل وسائل الاعلام وضمان والاستقلالية المهنية لمواجهات التحديات التي يفرضها القرن 21.