إن أقسى ما يمكن أن يُصيب الإنسان في مغرب هذه اللحظات التي يمر بها.. وسط ارتباكٍ كبيرٍ وإجهازٍ عبثي على مكتسبات انتُزعت على مراحل بصراع دموي عنيف، هو أن نفقدَ ما تبقى من صبر وأمل ولو كان بعيدا، أملٌ أشبه بخيال الجنين، نحتمي به خلف ذرائع أننا نتمرن للصراع الذي ما زال قابعا في النفس الجريحة.. والتي لا تبرأ إلا لتندمل من جديد .
فمن كثرة ما يتفنن الحاكمون الذين قدّموا أنفسهم إلى الشعب المغربي في صورة الملاك المُرغم على النزول إلى الأرض والسجود لنا، اختاروا الخروج من الزهد إلى عالمنا ''الشيطاني'' الصاخب لإصلاحنا وتقويمنا فنزعوا رداء الدراويش ولبسوا جلودنا التي سلخونا لينزعوها عنا.
ولستُ أخشى على وطننا من الضربات المتتالية للحزام الغذائي بقدر ما خوفي على ما نفقدُه يوميا، وبشكل متسارع، من قيم شكلت هوية الإنسان المغربي من أمل وكرامة وعفة وحرية... قيم تحكم العلاقات المطبوعة بالتوادد والاحترام والتسامح والصدق في حياة تتغذى على التنافس والتعايش.
يوم الأحد الماضي ، عشتُ حدثين منفصلين بدلالة واحدة ويجيبان، ولو جزئيا عن سؤال لماذا تتضاءل فرص الحياة الحقيقية وتتشكل حياة بلا حياة.
الحدث الأول: في الصباح، وبإحدى المقاهي وسط حي شعبي بالدار البيضاء، رأيتُ وسمعتُ حكاية عائلة من ستة أفراد، أب وأم وأربع بنات لا تتجاوز كبراهن الثالثة عشرة من عمرها. عائلة نامت بجوار عمارة في الخلاء منذ خمسة أيام، بعدما احتال عليها المالك الجديد - وهو موظف سام له نفوذ كبير - وأخرجهم من شقتهم المتواضعة ذات الكراء المتواضع (وكان قد أفرغ شقتين من قبل بنفس الطريقة، تمهيدا لاستكمال الإفراغ حتى يتمكن من تجديدها واستغلالها في ما يراه مناسبا). وقال لي صديقي، وهو جار قريب لسكان العمارة وللسيد محمد الرجل الطيب والساذج، بأن المالك السامي أرسل أحد زبانيته ليلة البارحة مهددا تلك العائلة بتلفيق تهم تزج بهم جميعا في السجن إنْ هم لم يرحلوا عن باب عمارته.
وأنا أغادر المقهى، في طريقنا التقينا بالرجل الطيب والساذج دائخا منكسر الخاطر، هدّه الظلم والرعب واليأس الرجيم. سلمنا عليه تعاطفا، فبادرنا بصوت ميت يقول بأنه سيرحل اليوم إلى أولاد عمران بدكالة عند أهله بعدما عجزت حيلته مع رب العمارة الذي لا يقهره الزمن أو القانون.
لقد قرر الفرار مستسلما حيث لن يعود إلى عمله حارسا للسيارات نهارا وخياطا للملابس التقليدية ببيته ليلا ، ولن تعود بناته إلى المدرسة.
الحدث الثاني: جرى معي في الثالثة والربع بعد زوال نفس اليوم، الأحد (22 يونيو)، خرجتُ بالسيارة لقضاء بعض المآرب العائلية المستعجلة، وحدث أن توقفتُ في الضوء الأحمر نهاية شارع ليلهوت (مستشفى بوافي) تهيؤا للدخول شمالا في شارع 2 مارس. ولأن المساحة أمامي واسعة تقدمت قليلا في انتظار الإشارة الخضراء، غير أني فوجئت برجل أمن بدين على دراجة نارية رقم 56934 تابعة لأمن الفداء متجاوزا الخط المتصل في حركة طفولية طائشة لإثارة الانتباه؛ ثم يتوقف بجواري ويطلب مني أوراق السيارة ويواصل حركاته البهلوانية متجاوزا الضوء الأحمر بلا مبالاة.
ركنتُ سيارتي وتوجهتُ نحوه، بجوار رجل أمن ثان مداوم في ذلك المكان، مستفسرا، فواجهني بأني كنتُ أنوي ارتكاب مخالفة تجاوز الضوء الأحمر . ورغم أن ثلاثة من الشهود من المواطنين الذي قدموا واحتجوا على ظلمه فإنه صار يقسم بأغلظ الأيمان أن يعاقبني على احتجاجي، وكان في ذهنه أن أستجديه بطريقة من الطرق!!. وخلال خمس عشرة دقيقة أبدى فيها الشرطي صاحب الدراجة النارية عن ثقافة واسعة وبهلوانية في احتقار المواطنين حينا وإسداء النصح والوعظ بحيث تحول إلى رجل دين حتى خلته من حزب العدالة والتنمية أو العدل والإحسان أو واحد من الأفغان الذين يرون في الآخر ذلك الشطان العامر بنوايا شريرة.
لكن الغريب في الأمر، وبعدما تأكد من إصراري على الاحتجاج على سلوكه الذي ينافي أخلاق رجل الأمن، واحتجاج المواطنين وأمام الشرطي الآخر المداوم الذي استسلم لواقعة لم يشهد فيها خرقا... تنازل عن تقييد مخالفة من الدرجة الأولى "عدم احترام علامة الضوء الأحمر" وأمر بتقييد مخالفة وهمية تعويضية من الدرجة الثالثة "عدم احترام إجبارية وضع حزام السلامة ".. وهو يعلم ويشهد أنني كنت بحزام السلامة ولم أخرق الضوء الأحمر.
هل نحن فعلا في دولة الحق والمؤسسات؟ أم أننا في وهْم يكبر شيئا فشيئا لنجد أنفسنا يوما وقد فات الأوان... ولا أحد يشعر بالأمان والطمأنينة يوم الأحد أو باقي أيام الأسبوع.