مكتنزة بالقمح تلاحق الجياع كسحابة تمطر كل يوم. اسمها إيمان لحسيني، تمشي في طرقات باريس الحالكة، تُذَكِّر الأجراس أن الأفران غير نائمة، وأن الخبز حق للجميع. تجوب الشوارع بحثا عن جسم هزيل أو سعال بارد أو فم يائس لتملأه بالشمس. عمرها لا يتعدى الثلاثين سنة، غير أن قلبها شاسع كبلاد مدججة بالحقول والأشجار وآلات الحصاد.
أدركتْ مبكرا أن بوسع شوارع باريس، إذا لم تكن محصنا ضد الثلج، أن تجعلك تأكل الحصى والتبن والموت. ولهذا، بادرت إلى تأسيس جمعية "Yassolidarity"، بمشاركة من متطوعين باركوا خطوتها، وساهموا في إرخاء أشرعتها، ليس فقط حين يتساقط الشتاء على الأرصفة، بل حين يصبح الوقت مفعما بالبؤس وعدم الاكتراث.
إيمان لحسيني، مغربية القلب والروح، فضلت، بدل أن تنفض سلال دمعها في الفراغ، أن تبسط دفء قلبها وسخاء روحها على الفقراء، حتى لو كان هؤلاء الفقراء من مدينة العطر والأنوار. تكرس وقتها لتخفيف من آلام المشردين، والذين يعيشون في محطات الميترو، والذين يحتلون مصاطب محطات الحافلات، والذين يحولون أغراضهم الى "بيوت متنقلة للنوم" في العراء، في عز الثلج والجوع والمطر.
لم تختر إيمان أن تتظاهر بأنها غير معنية، وبأن للفقراء "ربا يحميهم"، وبأن سقوف الكنائس تنحني لمثل هؤلاء، وبأن الخير كل الخير في تحميل "الدولة الفرنسية" مسؤولية موت هؤلاء البؤساء على الضفاف الحجرية. اختارت أن تبالي، وأن تبادر، وأن تمد قلبها إلى عيونهم وبطونهم وثيابهم وجواربهم وأحذيتهم. لم يكن بوسعها أن تركب اللامبالاة، وأن تمشي إلى حال شؤونها، خفيفة من هذا العبء الإنساني الثقيل.
لم تستثن الأحياء الراقية، لأنها تعرف أن عروق الفقر طويلة، وأن البؤس مستشر حتى أمام أشهر متاحف باريس وأماكنها التاريخية. هناك آلاف المواطنين يعيشون دون عمل، ودون مأوى، في كل المسارب والاتجاهات. في مداخل الميترو، أو بالقرب من المحلات التجارية الكبرى، أو في الحدائق وأمام المزارات. لا فرق بين صغير أو كبير، ولا بين فرنسي أو أجنبي، لأن الغرض هو إشاعة الدفء الإنساني في أجساد هؤلاء، وحشد الأمان تحت ضلوع الذين يحتاجون إلى طعام وأغطية.