1 - تعزيز وتكريس السيادة الوطنية: هدف استراتيجي ذو راهنية في ظل حالة اللايقين على الصعيد الدولي، وفي ظل ما نتج من تحولات سياسية واقتصادية وجيواستراتيجية عالمية؛ شكل المغرب الاستثناء وراكم حصيلة إيجابية بعد سلسلة ازمات:
• الأزمة العالمية المالية لسنة 2008؛
• أزمة كوفيد 19 وتداعيات الاقتصادية والاجتماعية؛
• الحرب الروسية الّاوكرانية وتأثيراتها على الأسعار ومستويات التضخم؛
مع الوضع العالمي الحالي بتموقع الصين وحلفاءها مع روسا واصطفاف أمريكا وأوروبا مع أوكرانيا وتحوير الحرب الباردة إلى حرب علنية اقتصادية وتجارية ورقمية وعسكرية؛ مجالات ترابية دولية (أوروبا) فقدت وستفقد "ميزاتها النسبية" ses avantages comparatifs، لصالح الدول الأكثر أمنا وامانا واستقرارا، بل الأكثر جاهزية من حيث البنيات التحتية، واليد العاملة المؤهلة وبقربها الجغرافي.
في هذا السياق، بلدنا المغرب مرشح بقوة كي يشكل قاعدة بديلة، ليس فقط بفضل ما حققه من منجزات في مختلف المجالات، من بنيات تحتية واقتصادية وأوراش اجتماعية وبيئية، بل بفضل توفر المغرب على رؤية استراتيجية تبناها جلالة الملك محمد السادس نصره الله من خلال النموذج التنموي الجديد، ومن خلال حرصه وتوجيهاته المسترسلة والدائمة بهدف تنزيل هذا الورش وضمان تموقع دولي ذكي ورصين انطلاقا من تكريس وتعزيز ثقة الدول الكبرى في بلدنا وهو ما يتجلى من خلال الديبلوماسية المغربية واستمرار فتح القنصليات والمكاتب الاقتصادية بالصحراء المغربية.
وقد صدرت في شتنبر 2022 دراسة عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية (IRES) عنوانها "سمعة المغرب في العالم سنة 2022"، خلصت إلى كون تموقع المغرب يتعزز دوليا وأن المغرب يحظى عموما بسمعة إيجابية لدى مجموعة من الدول المتطورة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، أثبت الاقتصاد الوطني مقاومته في مواجهة الصدمات الخارجية، كما تشهد على ذلك نسبة النمو المسجلة سنة 2021 والتي قدرت بـ %7,9، وهي نسبة لم يحققها المغرب منذ سنة 1997. كما تمكن المغرب بفضل التدابير الاستباقية من الحد من تداعيات أزمة الحرب الروسية الأوكرانية ولم تعرف الأسواق المغربية نقصا في المواد الأساسية، على غرار مجموعة من الدول بما فيه المتقدمة، وتمكنت الحكومة من امتصاص حدة التضخم بدعم القدرة الشرائية.
إن ما تحقق بالمغرب، لم تقو على تحقيقه مجموعة من الدول والدول المتقدمة منها، وهو ما يستوجب العمل على تحقيق السيادة الوطنية، وتحصين متطلبات التنمية الداخلية، لأن العالم سيعرف تدافعا دوليا على المواد الأولية وتسابقا كبيرا، في ظل اضطرابات في الامدادات والاختلالات في توفير المواد الأساسية وتوزيعها.
ونود أن نؤكد هنا، على ثلاثة أبعاد رئيسية، وفي مقدمتها: تعزيز مكانة المغرب، والدفاع عن مصالحه العليا، لاسيما في ظرفية مشحونة بالعديد من التحديات والمخاطر والتهديدات.
وقد أبانت الأزمة الوبائية عن عودة قضايا السيادة للواجهة، والتسابق من أجل تحصينها، في مختلف أبعادها، الصحية والطاقية، والصناعية والغذائية، وغيرها، مع ما يواكب ذلك من تعصب من طرف البعض..
أبعاد السيادة الوطنية
المغرب، يتوفر على رؤية استراتيجية لمواجهة المتغيرات الجيواستراتيجبة والتحديات الاقتصادية والبيئية ليس فقط من أجل تعزيز المكتسبات ونقط القوة السالفة الذكر، بل لاستشراف مستقبل أفضل في ظل ضبابية المشهد الدولي وما يعرفه من متغيرات. ويبقى مبدأ السيادة الوطنية من خلال ضمان الأمن المائي والغذائي والطاقي والصحي من أكبر الرهانات الوطنية اليوم.
الأمن الغذائي
المنجزات والاستثمارات في المجال الفلاحي مكنت المغرب من تحقيق الاكتفاء الذاتي في الفواكه والخضر والمنتجات الحيوانية، وليس في المنتجات الأساسية كالحبوب والسكر والمواد النباتية والتي يضطر المغرب لاستيرادها وهي المعرضة لتقلبات الظرفية الاقتصادية وللازمات السياسية والبيئية. بل من مسببات الضغط على ميزانية الدولة من خلال دعمها عن طريق المقاصة. إن توفير الامن الغذائي انطلاقا من ضمان المخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية مدخل أساسي لضمان السيادة المغربية وتعزيز موقعه الدولي وخاصة الاوروبي والافريقي.
الامن الغذائي رهان اساسي بالنسبة للمغرب وتحقيقه الزامي في بعدين أساسيين الأول توفير المنتجات الغذائية وضمان مخزونها الاستراتيجي من خلال تعزيز القدرة الإنتاجية الفلاحية لهذه المواد، ومن ناحية ثانية تمكين المواطن المغربي من الولوج إليها بتوفير بأثمنة في متناول القدرة الشرائية للمغاربة بفضل وضع اليات فعالة لتدبير الأسعار المحلية للمواد الغذائية الاستراتيجية.
الأمن الطاقي
لا يختلف اثنان أن مصدر الأزمات اليوم بالعالم هو طاقي مرجعيته مزدوج:
• عواقب الازمة الصحية لفيروس كورونا والتدافع الدولي للاقتصادات الكبرى لاسترجاع معدلات نموها بعد التعافي من الازمة الصحية، وهو ما رفع حجم الطلب على المنتوجات الطاقية؛
• الحرب الروسية الأوكرانية؛
والمغرب بصفته مستورد لجل حاجياته من المنتجات البترولية، تضرر بشكل كبير من الازمة الطاقية العالمية إذ بلغ معدل التبعية الطاقية 90% سنة 2019.
ويبقى الأمن الطاقي للمغرب من الرهانات الكبرى بهدف تحسين مناعة وتنافسية المغرب. وفي هذا الصدد ترتكز التوجهات الاستراتيجية لضمان الأمن الطاقي على:
1 - تسريع الانتقال الطاقي من خلال تطوير الطاقات المتجددة؛
2 - تعزيز قدرات التخزين والمخزون الاستراتيجي للمنتجات البترولية على المستوى الوطني؛
3 - تطوير الهيدروجين الأخضر كمشروع واعد نظرا للميزة النسبية التي يتوفر عليها المغرب في هذا الشأن؛
4 - تطوير الغاز لطبيعي كخيار استراتيجي لتنويع العرض الطاقي وسيشكل أنبوب الغاز بين المغرب ونيجيريا دعامة أساسية في هذا الإطار؛
5 - اتخاذ تدابير النجاعة الطاقية تهدف لتخفيض الاستهلاك النهائي للطاقة بنسبة 20% بحلول سنة 2030.
الأمن المائي
لقد اتخذت الحكومة تدابير استباقية واستعجالية على مستوى الاحواض المائية وتم ابرام اتفاقيات مع مختلف الفاعلين بمجموعة من جهات المملكة لتامين التزود بالماء الصالح للشرب وإطلاق قنوات تحويل المياه وتم تشغيل محطة تحلية مياه البحر بسوس ماسة. واعطت الانطلاقة لمحطات تحلية المياه بالدار البيضاء وبمدينتي اسفي والجديدة بشراكة مع المكتب الشريف للفوسفاط.
وان تم تدبير المرحلة بنجاح وضمن المغرب تزويد المواطنات والمواطنين بحاجياتهم من الماء الشروب فالتحديات المرتبطة بالتغيرات المناخية تفرض بلورة مخطط جديد للماء كما جاء في صلب الخطاب الملكي الأخير، والهدف الأسمى هو ضمان الامن المائي بالمغرب.
من الأمن الصحي الى الأمن الاجتماعي: ورش الحماية الاجتماعية Vers un Smig Social
تغير منظور المنتظم الدولي للمنظومة الصحية بعد أزمة كوفيد 19، والمغرب والحمد لله، تجاوز بحنكة وبتضامن مواطناتي وبتضحيات رجال ونساء القطاع الصحي وتمكن من كسب معركة التلقيح.
وفي زمن التدافع الدولي، تمكنت بلادنا من توفير اللقاح لكل المغاربة وبكميات وافرة وفي ظرف زمني قياسي، بل أضحى بلد منتجا للقاح في افق تصنيعه. مجهودات مكنت من تحصين مناعة المغاربة وساهمت في تسريع خروج وطننا من الأزمة.
بالمقابل، لا يمكن أن نتجاهل مظاهر الخصاص والهشاشة كذلك التي أظهرتها الجائحة، التي تصدى لها المغرب بفضل السياسة الجدية للمنظومة الصحية بالورش الملكي الكبير للحماية الاجتماعية من خلال التغطية الصحية الاجبارية وتعميمها على المستفيدين من نظام راميد وتعميم التعويضات العائلية (7 مليون طفل مستفيد).
في هذا الإطار، مشروع قانون مالية 2023 يرمي إلى تعزيز أسس الدولة الاجتماعية عن طريق:
• التامين الاجباري عن المرض قبل سنة 2022 لـ 4 ملايين اسرة مغربية بغلاف مالي قدره 9.5 مليار درهم؛
• تعميم التعويضات العائلية سنة 2023 على 7 ملايين طفل و3 ملايين اسرة بدون طفل؛
• بناء مراكز استشفائية جامعية بالرشيدية وبني ملال وتعزيز الأطر الطبية بغلاف مالي قدره 28.1 مليار درهم؛
• تنزيل اصلاح منظومة التعليم بـ 69 مليار درهم.
• تأهيل العنصر البشري ودمجه في سوق الشغل، وتقوية مهاراته وتسهيل ولوجه لسوق الشغل من خلال برامج اوراش وفرصة اللذان خصصت لهما الحكومة على التوالي مبالغ 2025 مليار درهم و 1.25 مليار درهم.
وهي مجهودات ستمكن المواطنات والمواطنين من دخل قار شهري وضمان حد أدنى من الدخل.
كما أدى الحوار الاجتماعي بالمغرب لتعزيز الحد الانى للأجر ورفع قيمته لدعم الطبقات العاملة والاجراء بالقطاعين العام والخاص.
2 - ورش التحول من الجهوية الإدارية الى الجهوية الاقتصادية
تفعيل ورش الجهوية المتقدمة كخيار استراتيجي لن يستقيم فقط بالجهوية الإدارية، أي بوضع مؤسسات منتخبة جهويا وباختصاصات جديدة يؤطرها الدستور والقانون التنظيمي 111-14 المنظم للجهات وإجراء انتخابات جهوية، بل بدعم الجهات اقتصاديا ومساهمة كل جهات المملكة في خلق الثروة وامتصاص البطالة.
لازال المغرب ورغم كل المجهودات المبذولة يعيش على واقع التفاوتات المجالية. خمس جهات المغرب تساهم تقريبا ب 70% من الناتج الوطني الخام وثمان جهات لا تساهم إلا ب 30 % أو أقل ولا ما يفسر ضعف مساهمة الجهات في الاقتصاد الوطني، وهو ما يفسر ارتفاع نسب البطالة في مجموعة من جهات المغرب، بل ينعكس ذلك على تعمير الجهات بتمركز الساكنة النشيطة وفي بعض المجالات الترابية الساحلية المستقطبة للاستثمارات دون غيرها.
فتقرير النموذج التنموي يؤكد أن الحلقة المفقودة في مجال التنمية هي غياب الالتقائية الافقية (بين السياسات القطاعية) والالتقائية العمودية (بين السياسات القطاعية وغياب الرؤية)، وهو ما يمكن تدارك بمنح ثقة أكبر للجهات في مجال التنمية، وان تصبح الجهات هي مركز بلورة وتنزيل السياسات العمومية القطاعية حسب مؤهلات كل مجال ترابي جهوي.
ويشكل ميثاق الاستثمار الجديد مدخلا أساسيا لخلق التوازن بين الجهات وضمان مساهمة أفضل لها في النسيج الاقتصادي الوطني وفي خلق فرص الشغل ترابيا.
ويعتبر هذا الميثاق الجديد مدخل أساسي لفك معضلة اقتصادية خلص إليها تقرير النموذج التنموي مفادها أن الاستثمارات العمومية تشكل ثلتي (2/3) حجم إجمالي الاستثمارات بالمغرب، في حين تشكل الاستثمارات الخاصة فقط الثلث (1/3). أي أن الدولة المغربية هي أول مستثمر بالمغرب وهو الأمر الواجب عكسه في أفق 2035 بدعم مشاركة أكبر للاستثمار الخصوصي في تقليص نفقات الدولة في هذا المجال.
والرهان خلال سنة 2023 هو تنزيل ناجع لهذا الميثاق لرفع جاذبية الجهات الأكثر هشاشة اقتصاديا وذات الاستقطاب الضعيف رغم توفرها على المؤهلات. الحكومة مطالبة بعقلانية بتوجيه الدعم للقطاعات الواعدة (بعد تحديدها بمرسوم) ذات القيمة المضافة الكبيرة بالأقاليم المستفيدة من الدعم (بعد تحديدها بمرسوم) مع وضع اليات ضامنة لتوطين الاستثمارات بهذه الجهات لان الدعم أحيانا لا يغري المستثمرين مقارنة مع تمييزات ضريبية إيجابية بالجهات تغني المستثمر عن تكلفة النقل نتاج بعده عن مواطن المواد الأولية ومناطق الاستهلاك.
أوراش مطروحة على الحكومة بهدف تكريس الوحدة الوطنية (وهي من أسمي مبادى السياسة العامة لإعداد التراب الوطني بالمغرب) من خلال توفير ظروف العيش الكريم لجميع المغاربة وضمان ولوجهم للصحة والتعليم ذي جودة أينما حلوا وارتحلوا. أي ضمان توزيع عادل للإنسان والأنشطة حسب الجهات والعمالات والاقاليم بتوفير الحد الادنى من البنيات التحتية والخدماتية بالمداشر والجبال والقرى وتأهيل المجالات الناقصة التجهيز وتمكين المواطنات والمواطنين من إمكانيات العيش في مجالاتهم الترابية.
سوفيان بوشكور، أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق بوجدة ورئيس مرصد التنمية المحلية والجهوية لجهة الشرق