أحمد الحطاب: الخطاب الديني والواقع المعاش

أحمد الحطاب: الخطاب الديني والواقع المعاش أحمد الحطاب
لا يختلف إثنان على أن الخطابَ الديني الصادر من المساجد أو عن علماء وفقهاء الدين أو عن وسائل الإعلام، بعيدٌ كل البُعد عن ما يجري من أحداث وما يقوم به الناس من أفعال وسلوكيات. وهذا يعني أن الخطابَ الديني، الذي من المفروض أن يُوجِّهَ معاملات الناس في حياتهم اليومية، متناقض أيما تناقض مع الواقع المُعاش. بل إن الخطابَ الديني في وادٍ والواقع المعاش في وادٍ آخر. فما هو سببُ هذا التَّفاوت بين ما يسمعه الناسُ وما يقرأونه من خطابٍ ديني وبين الواقع المُعاش؟.
الخطابُ الديني، بصفة عامة، وخصوصا ذلك الذي يسمعُه الناسُ في المساجد، ملتصق بالماضي السحيق ومرتكِزٌ حول أمورٍ يندرج بعضُها في الغيبيات. إنه خطابٌ خيطُه الناظم هو التَّخويف والتَّرعيبُ والتََّرْهِيب والتََّهْوِيلُ بينما اللهُ سبحانه وتعالى، في أوَّلِ سورة من القرآن الكريم، سورة الفاتحة، يُخبرنا بأنه "رحمانٌ رحيم"، أي كثير الرحمة. والرحمة هي الرِّقَّة والشفقة والمغفرة واللُّطف والرأفة والعناية بالعباد… إنه كذلك خطابٌ ديني غالبا ما يُربط بعذاب جهنم والنار و الجحيم… بينما عندما نقرأ القرآنَ الكريمَ، نجد أن الآيات التي تذكر جَهَنَّمَ والسََّعِيرَ والَّلَظَى والنارَ والهَاوِيَةَ تكون دائما مرتبطةً بالكفر والشِّرك وعدم توحيد الله وعبادة الأصنام… وهنا، لا بدَّ من توضيح الفرق بين التَّحذير، من جهة، والتَّخويف والتَّرعيبُ والتََّرْهِيب والتََّهْوِيلُ، من جهة أخرى. التَّحدير أو التَّنبيهُ ورد في القرأن الكريم وكان من أحد مهامِّ الأنبياء والرُّسل وتمَّت الإشارةُ إليه بواسطة فِعل "أنذر". و أنذر لغويا تعني أَعلَمَ، أخبَرَ، نبَّهَ للعواقب، أوصلَ أو بلَّغَ أمراً ما إلى المعنيين به. والأنبياءُ والرُّسُلُ كانوا مُنذِرٍينَ، أي مُحذِّرين الناسَ بما قد يحدث لهم إن هم خالفوا ما قد أُمِروا به. والأنبياءُ والرُّسُل كانوا يبلِّغون للناس ما أمرهم اللهُ أن يبلِّغوه بدون تخويفهم وترهيبهم وترعيبهم. 
وخيرُ دليلٍ على التَّبليغ بدون تخويف وترهيب هي الآية رقم 44 من سورة طه حين يقول سبخانه وتعالى : "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (طه، 43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (طه، 44). أهناك وضوحٌ أكثر من هذا؟ فرغم طُغيانِ فرعون وجبروتِه، فإن اللهَ أمرَ رسولَه موسى وأخاه هارون أن يُعاملا هذا الطاغية بلينٍ ولُطفٍ. وهذا يعني أن ما على موسى وأخاه هارون إلا أن يبلِّغوا لفرعون ما ينتظره من عواقب إن استمرََ في طُغيانه وجبروته. فلماذا الخطابُ الديني فيه جُرعَةٌ كبيرة من التَّخويف والتَّرهيب والوعيد؟ ولماذا مَن يصدر عنهم هذا الخطابَ نراهم يتوجَّهون إلى الناس بصوت عالي فيه نبراتٌ مُخيفة وأحيانا تهتزُّ جميع طبقات أجسامهم و يقومون بحركاتٍ فيها نوعٌ من التَّهديد؟.
 الجوابُ عن هذين السؤالين هو أن مَن يصدُرُ عنهم هذا النوعُ من الخطاب الديني يظنون أنهم يملكون الحقيقةَ وأنهم أدرى من غيرهم بأمور الدين. أولا، الحقيقةُ بمعناها المطلق لا يملكُها إلا الله. ثانيا، فهل يُدرك مَن يصدُرُ عنهم هذا النوعُ من الخطاب الديني أنهم يتعاملون مع تفاسير وتأويلات القرآن الكريم وليس مع القرآن في حد ذاته؟ وكل التفاسير والتَّأويلات مصدرُها بشري. وكل تفسيرٍ أو تأويلٍ بشري لا يمكن أن يكونَ إلا نسبياً. وكل ما هو نسبي قابلٌ للتَّغيير. وكل ما هو قابلٌ للتَّغيير، إن صَلُحَ لزمانٍ معيَّن، قد لا يصلُحُ لزمان آخر علما أن القرآنَ الكريم فيه الكثير من ما هو ثابت ولا يقبل التَّعيير. وغيابُ الوعي بنسبية التَّفاسير هو الذي يجعل مَن يصدر عنهم هذا النوعُ من الخطاب الديني يظنون أنهم يملكون الحقيقة وبالتالي، فهذا الخطابُ نفسُه لا يقبل التَّغيير. بمعنى أن ما حمله الخطابُ الديني من رسائل مستمدة من الماضي بقي ثابتا شكلا ومضمونا. وكأن الأزمِنة والأمكِنة لا تتغيَّر، أي أن زمانَ ومكانَ عهد الرسول مشابهٌ لزمان الخلفاء وما بعد الخلفاء. وكأن البشرَ لا يتطوَّرون فكريا وعلميا وحضاريا. وكأن العقولَ جامدة تُنتِج نفسَ الأفكار والتَّفاسير والتَّأويلات والنظريات والرؤيات و المعارف. لو كان الأمرُ هكذا لتوقَّف العالمُ عن الاشتغال ولا توقفت الحضارات… وكيفما كان الحالُ، فإن إعمارَ الأرض، الذي أمرَ اللهُ الناسَ بالقيام به، لا يقبل الجمودَ. وجمودُ الخطاب الديني هو الذي حالَ ويحول دون تكييفِ هذا الخطاب مع الحياة اليومية للناس!.
فهل سمعتم إماماً أو خطيباً أو وسائلَ إعلامٍ تطرَّقوا لهموم الناس اليومية؟ وهذه الهموم كثيرة و متنوِّعة. فمنها ما هو اجتماعي وما هو اقتصادي ومنها ما هو ثقافي وما هو أخلاقي وما هو حضاري… فما هو اجتماعي، يمكن أن يتضمَّنَ مواضيعَ العدل والأنصاف وأهمية التعليم في التَّنمية والمساواة والفساد بجميع انواعه، الفساد المادي، الأخلاقي، البيئي… وما هو اقتصادي، يمكن أن يتضمَّنَ مشكلات عدة منها البطالة، التشغيلُ، التَّنمبة البشرية، الغنى، الفقر… وما هو أخلاقي، يمكن أن يتضمَّنَ تدهورَ القيم الإنسانية وتراجع القيم الاجتماعية ودور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في نشر الوعي والتربية الحسنة والمواطنة وحب الوطن والتَّضامن والتَّعايش… وما هو ثقافي، يمكن أن يتضمَّنَ التَّشجيع على القراءة ودورها في التَّطوُّر الفكري والاجتماعي…
ما أختِم به هذه المقالة، هو أن الخطابَ الديني بقي على حاله كما كان في الماضي رغم ما تمَّ من تغييرٍ عميق في الأطار الذي يُنشَرُ فيه هذا الخطاب. ولا داعيَ للقول أن إدراكَ دينِ الإسلام، في العصر الحاضر، لا يمكن أن يتشابه مع ما كان عليه هذا الإدراكُ في الماضي. وهنا، لا أتحدَّث عن العبادات، بل عن المعاملات التي يجب أن تسايِرَ التَّطوُّرات الفكرية والعملية التي عرفتها المجتمعات الإسلامية. والإسلام، في العصر الحاضر، في حاجة إلى مَن يجدِّدُه ويُلائمه مع هذه التَّطوُّرات. لماذا؟ لأنه، حسب القرآن الكريم والسُّنة، الإسلامُ، كما كان يُدرَكُ في عهد الرسول (ص) أفضل بكثير من الإسلام، كما هو مُدرَكٌ، في الوقت الحاضر حيث اخترقه التَّعصُّبُ والتَّطرُّف والسياسة وأصبح وسيلةً للوصول إلى السلطة، وأحيانا، لزرع الفتنة بين الناس. بالفعل، الإسلام، في عهد الرسول (ص)، كرسولٍ للبشرية جمعاء، كان أكثر أنسانية واكثرَ عدلٍ بين الناس. ألم يقل الرسول (ص) : "أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى".