برحيل عالم المستقبليات المهدي المنجرة (13 مارس 1933 - 13 يونيو 2013 ) رحل عنا مفكر عربي معاصر من طينة نادرة. رجل أجمع الكثيرون على أنه وطني صادق ونزيه. رجل مواقف ومبادئ، مثقف شجاع. لا يركن إلى المهادنة وتنميق الخطاب. علامة من علامات الثقافة والفكر في العالم. خبير متخصص في علم المستقبليات(وضع تصورات مستقبلية على شكل إمكانات وطرق واضحة للمسيرة البشرية في الحياة). اشتهر المرحوم المهدي المنجرة بجمعه وربطه بين العلم والثقافة، وإعطائهما المكانة التي يفترض أن يساهما من خلالهما في تطوير أسلوب العيش اليومي، وإبداع مشاريع لتنمية الشعوب. كما تميز بأن كانت كتبه الأكثر مبيعا في فرنسا ما بين سنة 1980 و1990.
"أنفاس بريس" تفتح صفحات من حياة المرحوم المهدي المنجرة، وتروي مقتطفات من سيرته، حسب أجوبته على أسئلة خاصة بجلسات حوار أجراه معه الكاتب المسرحي محمد بهجاجي والشاعر حسن نجمي لفائدة يومية "الاتحاد الاشتراكي"، وقد تمَّ تجميع هذا الحوار في كتاب صدرت طبعته الأولى سنة 1997 بعنوان "المهدي المنجرة (مَسَاُر فِكـْر)".
الحلقة الثالثة:
في سن الخامسة عشر سافر المهدي المنجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للالتحاق بالثانوية التجريبية "باتني"، وكانت المرة الأولى التي ركب فيها الطائرة، وإن كان اسمه ارتبط منذ ولادته بعالم الطيران، فقد أسس والده منذ أواخر العشرينات "نادي الطيران بالمغرب"، وبعد الاستقلال أصبح أو رئيس مغربي لهذا النادي، وفي سنة 1933 كانت قد بدأت مراسيم تدشين الخط الجوي بين الجزائر والدار البيضاء، لكن أسبابا ما حالت دون سفر والد المهدي فانتدب المرحوم المهدي الصقلي ليمثله هناك. في الساعة السادسة من أحد صباحات 1933 توصل المنجرة الأب ببرقية لفتت انتباه عائلته، فالبرقية - يومها - كانت شكلا راقيا من أشكال الاتصال، قرأ الأب مضمون البرقية التي بعثها المهدي الصقلي من الجزائر فقال لمن حوله ( هذا اسم مولودنا الجديد قد وصل) ومن تمَّ سمت العائلة المهدي بهذا الاسم. حين وطأت قدما المهدي الأرض الأمريكية كانت سنة 1948 تعرف عددا من إشارات التاريخ: انطلاق البث التلفزيوني في الولايات المتحدة لأول مرة، تولي ترومان رئاسة الجمهورية، إجراء مباراة الملاكمة الشهيرة بين مارسيل سيردان ولاموتان، ظهور الأسطوانة الدائرية، وفي هذا التاريخ كانت نكبة فلسطين، بمعنى أن وصوله هناك ربطه مباشرة بجديد عالم الاتصال من جهة وبطبيعة الانشغال بقضية فلسطين من جهة أخرى، حيث سمح له المقام هناك بمتابعة ردود الفعل اتجاه النكبة، خاصة ردود الفعل داخل الأوساط الصهيونية، فقد كان لتلك السنة تأثير واضح على المناخ العام الذي وجد نفسه داخله. بالتحاق المهدي بثانوية "باتني" التجريبية أدرك أن التعليم فيها يقوم على جملة من المبادئ التربوية الجديدة من بينها أولا: لا وجود لأشياء اسمها التنقيط أو الامتحان، ثانيا: الثقة المطلقة في الطلبة، فالاختلاط قائم بين الجنسين بدون أن يحدث ذلك أي مشكل أخلاقي أو ما يُشبهه. ثالثا: التوازن مابين حصص الدراسة وحصص العمل، فالمؤسسة كانت ضيعة في نفس الوقت والطلبة مدعوون بالتناوب للدراسة صباحا، وللحرث أو رعاية البقر والخيل أو البستنة ... زوالا، والمبدأ الرابع الذي كانت تتم بلورته في هذه المؤسسة هو اعتمادها على الاكتفاء الذاتي واحد من العناصر التي وجهت اهتمام المهدي المنجرة المبكر بضرورة تبني هذا المبدأ في أطروحاته حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية، كما أن الطلبة (يومها) كانوا يعتزون بالاعتماد على النفس (هذا المبدأ الشريف الذي لا تخفى قيمته). استمر تكوين المهدي المنجرة بمؤسسة "باتني" إلى إلى حدود سنة 1950 وتمكن خلالها من الانفتاح على آفاق جديدة، وكان يحتفظ بالتقارير التي كان أساتذته يرسلونها إلى العائلة وقد وضعها المرحوم المهدي أمام محاوريه (الكاتب المسرحي محمد بهجاجي والشاعر حسن نجمي) وأطلعهما على تقارير تضم عرضا أنجزه حول التاريخ الأمريكي، ومعها كلمة الأستاذ تشيد بسعة تفكير التلميذ المهدي وتشدد على انتباه هذا الطالب المغربي لظاهرة الإمبريالية. نبع اهتمامه بظاهرة الإمبريالية بعد اطلاعه على كتاب حول هذا الموضوع لمؤلفه باركر توماس مون بعنوان "الإمبريالية والسياسة العالمية" الصادر سنة 1926. من العروض التي أنجزها المهدي المنجرة في مؤسسة "باتني" مقارنة مابين الديمقراطية الجيفرسينية والديموقراطية الجاكسونية. كما اهتم في تلك الفترة بمذهب "ماك ريكرس" الذي اشتهرت به الولايات المتحدة في عهد روزفلت مع نمو وظهور الشركات الكبرى، وقد كان هذا المذهب يقوم على الدعوة إلى استئصال الفساد الاجتماعي ومحاربة الرشوة، ويتحرك لفائدة هذه الأفكار كتاب وأدباء وصحافيون، وبتاريخ 24 يناير 1949 أنجز المهدي عرضا حاول رصد التصورات العامة لحركة "ماكر يكرس". بعد مؤسسة "باتني" التحق المهدي المنجرة بجامعة "كورنيل"، والواقع أن خريجي المؤسسة الأولى كانوا مقبولين مقدما من طرف كل الجامعات بالنظر إلى شهرة "باتني" ومصداقيتها. كان بإمكان المهدي مثلا أن يلتحق بجامعة "هارفارد" أكبر المؤسسات الجامعية الأمريكية لكن انتشاء التلاميذ آنذاك هو أن يتم قبولهم في هارفارد ويتخلوا عن الالتحاق بها. في "كورنيل" تابع المهدي المنجرة دراسة التخصص في البيولوجيا والكيمياء، لكن مع مطلع السنة الثانية أحس بميول نحو العلوم الاجتماعية والسياسية، فقرر أن يتابع تعليمه هناك مزاوجا بين البيولوجيا والكيمياء من جهة والعلوم الاجتماعية من جهة أخرى.
(يتبع)
ملحوظة: العناوين من اختيار هيأة التحرير