د. إدريس أبو إدريس : الملك محمد السادس لايخلف مواعيده مع التاريخ

د. إدريس أبو إدريس : الملك محمد السادس لايخلف مواعيده مع التاريخ

منذ أن اعتلى محمد السادس عرش أجداده، ونحن نراه دائما في الموعد مع التاريخ، لايخطئه، والتاريخ لايتحداه، دائما يظهر وكأنه يمشي والتاريخ في تواز وتناغم تام  لامثيل له في تاريخ المغرب ...

فليس هناك سابق ، وليس هناك متأخر ...

لقد ظهر هذا التناغم والتناسق مع التاريخ في الكثير من المناسبات والأحداث، كانت آخرها الزيارة الناجحة التي قام بها الملك إلى إفريقيا، وقبلها ظهر الملك كصانع متيقظ للتاريخ، كمؤثر ومتأثر،وحاضر في الميعاد، إنه حدث ما سمي "بالربيع العربي"، وما قام به محمد السادس من تغييرات دستورية،وتحول وانتقال ديمقراطي سلس وهادئ، ولكنه حدث وإصلاح كبير وعميق، جاء في الوقت المناسب، على يد الملك المناسب، وفي المكان المناسب، ولصالح الشعب المناسب ...

ما أريد الحديث عنه في هذه الورقة،هو الحدث/الزيارةالتي قام بها الملك محمد السادس إلى تونس؟

لقد فوجئت لشيء يدل على عبقرية محمد السادس،في هذا الزمن العربي الجديد،والملطخ بالكثير من الدماء والإضطرابات؟

لقد كتبت في ملحق آخر كتاب أصدرته عن المقاومة والحركة الوطنية بمكناس،كتبت قصيدة أسميتها :"لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية"، وهي مستوحاة مما عاشه الشعب التونسي في ثورته على الديكتاتور، وقلت في تقديم القصيدة، أني أردت تذييل ذلك الييت الشعري الذي نظمه تونسي عادي وبسيط ،لكنه مدرك بلحظة تونس التاريخية،فعبر في إحدى شوارع تونس،وصرح لإحدى القنوات بحسرة وغضب: "لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية "؟

وأضفت في هذا التقديم أنه من عادة ملوك المغرب أن ينظموا بيتا أو بيتين من الشعر،ويطلبون من أحد شعراء عصرهم المشهورين بتذييلها، يعني أن يكملها، لأنه لاوقت للملوك لنظم الشعر، وإنما يريدون التعبير فقط على سلامة المنطق والعقل، وعلى رهافة الحس والشعور ....

المفاجأة/الحدث، التي تنم عن عبقرية سياسية لاجدال فيها، أن يكتب محمد السادس قصيدة على طريقة بني عصره، يعني أن يجعل من سلوكه نوعا من صناعة للتاريخ، وللقصائد الشعرية المتناغمة مع الأحداث ومع الناس...

فنراه في قلب تونس، وفي نفس الشارع الذي ظهر فيه ذلك التونسي، وبلباس عادي كلباس أي شاب من شباب تونس، نراه يتجول، وكأن لسان حاله يقول: "لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية"،لحظة التلاقي والتآخي بين الشعوب، لحظة تاريخية أخرى ليست تلك التي عرفناها في الربيع العربي، الآن ومع محمد السادس، ومن قلب تونس، نحن مع لحظة "بناء المغرب العربي "، مغرب الشعوب ،مغرب الوحدة، مغرب التسامح والتواصل والتلاقح...

المغرب العربي الذي خطط له الوطنيون ومن سنوات خلت، وعلى رأسهم المجاهد الملك محمد الخامس، وتجلى فيما قدمه المغاربة من تضحيات من أجل استقلال الجارة الجزائر، ومن أجل بناء الوحدة المغاربية، التي كان المغاربة- شعبا وملكا- يعتبرونها أساسية في كل تحرر أو تقدم، أو محاربة للتخلف والتبعية ...

محمد السادس يقول رمزيا، ومن نفس مكان الثورة التونسية، لقد هرم أجدادنا وآباؤنا، وها نحن نهرم، فكفاكم من عرقلة وحدة شعوب المغرب العربي، واتركوا الشعوب تتحرر من القيود والحدود...

وهنا يوجه خطابه خاصة إلى حكام الجزائرالذين لم يملوا، ولم يتعبوا من الوقوف حجرعثرة أمام كل محاولات بناء وحدة المغرب العربي الكبير، وتحطيم الحدود المصطنعة، وهذا ماعبر عنه الملك محمد السادس أمام البرلمان التونسي، بأنه لايمكن الإبقاء على الحدود الفاصلة بين الشعوب ونحن في هذا القرن الواحد والعشرين... وأن اتحاد المغرب العربي لم يعدأمرا اختيارياأو ترفا سياسيا، وإنما أصبح ضرورة ملحة لشعوب المنطقة ولحوض البحر المتوسط، كما حذر من أن تخلف المنطقة المغاربية موعدها مع التاريخ ...

ومحمد السادس بزيارته لتونس، وبخطابه أمام برلمانها، وبالتجوال في شوارعها "كأيها الناس "، نراه يخلخل ذاكرة حكام الجزائر، وينبههم إلى ماهم عليه من غفلة وغفوة ونوم عميق أمام متغيرات التاريخ والواقع، ويدعوهم إلى تحرير التاريخ، بتحرير الشعوب، وذلك بفتح الحدود، لينساب البشر منتشيا في ربوع المغرب الكبير، ومتمتعا برؤية كل مظاهر الوحدة والتنوع والإختلاف...

وأكمل محمد السادس حلقة سلسلة تاريخ الزيارة إلى تونس، باستقبال زوجة وابن المناضل النقابي المغاربي المشهور، الذي قتلته السلطات الإستعمارية في الخمسينيات من القرن العشرين، واهتز لمقتله الشعب المغربي، وقامت مظاهرات في كل مدنه الكبرى، تعبر عن غضبها واستنكارها لإستهداف الوطنيين الأحرار، المؤمنين بوحدة شعوب المغرب العربي،وتحريرها من ربقة الإستعماروالتبعية له...

ثلاثة أحداث تمخضت عن الزيارة التي فيها من المجد والعبقرية السياسية الشيءالكثير: خطبة البرلمان-التجوال في شوارع الثورة التونسية –استقبال زوجة المقاوم والمناضل فرحات حشاد-

أحداث لم تكن فقط عبارة عن "قصيدة شعرية"، ولكنها ملحمة تاريخية، فيها التراجيدي والكوميدي، المتجلي فيما تفعله وتعيشه الجزائرفي هذه اللحظة التاريخية: رئيس مقعد، ومغرب عربي مجمد !!

ومحمد السادس ينادي من قلب شوارع الثورة التونسية، ببناء مغرب الشعوب، المغرب العربي المتحرك نحو المستقبل، وليس المتجمد في عقول حكام الجزائر، ومنذ الحرب الباردة المتجمدة بعد الحرب العالمية الثانية !!

هذا هو محمد السادس وهذه هي العبقرية السياسية، وهذا هو الموعد الذي لايخلف مع التاريخ، سلوكا وقولا وفعلا، فأفيقوا يا"أهل الكهف "في الجزائر، وأزيلوا من قلوبكم الحقد والضغينة، والغل والحسد، لعل أجيال المغرب العربي تغفر لكم ما تقدم وتأخر من أفعالكم المشينة، والمعرقلة لبناء وحدة شعوب المغرب العربي الكبير ...

 

إدريس أبوإدريس/أستاذالتاريخ بكلية الآداب بمكناس