كانت مدارس تحفيظ كتاب الله وستبقى، ما استمرّت الحياة تلعب دورا محوريا في تكوين الشّخصيّة الإسلاميّة الفاعلة داخل المجتمع الإسلاميّ وخارجه.
لقد أكّدت بعض الدّراسات العلميّة الحديثة أنّ حفظ القرآن الكريم وحفظ بعض المتون يُقوي الذّاكرة ويساعد النّاشئة على النّجاح والتّفوّق في مسارهم الدّراسي والمهنيّ، كما يعمل على ترقية اللغة العربيّة وحفظها من التّلاشي والاندثار. وهي دراسات مصادقة على الجهد الكبير الذي يقوم به علماء الأمّة وحفظة كتاب الله تعالى، فإنّهم ما غفلوا يوما عن توجيه الأولياء إلى العناية بأبنائهم وتشجيعهم على حفظ القرآن الكريم منذ الصّغر منبّهين بالقولة الشّهيرة "الحفظ في الصّغر كالنّقش على الحجر".
غياب المدارس القرآنيّة أو ندرتها في المهجر لم يمنع الجاليات المسلمة من خوض بعض التّجارب النّاجحة التي وجب الوقوف معها والإشادة بها. فقد جاءت الدّعوة الكريمة من مؤسسة الوقف الاسكندنافي للخدمات الأساسيّة في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن لحضور حفل تخرّج بعض أبناء المسلمين الذين حفظوا القرآن الكريم كاملا.
لقد بدأت تجربة تدريس القرآن الكريم لأبناء الجاليات المسلمة منذ بضعة سنين بإطلاق شعار "حافظ في كل بيت". وقد مرّت التّجربة بمراحل تطوير مهمّة، وتمكّنت من تخريج مجموعة من الطّلّاب الشّباب، استطاعت ثلّة منهم بتوفيق الله ثمّ بتوجيه القائمين على الشّأن سدَّ العجز، فباتت السّاحة لا تحتاج في شهر رمضان المبارك إلى القرّاء الذين يأتون عادة من بلدان إسلاميّة مختلفة، إلّا ما كان من الإضافات المنمّية للتّواصل المشجّعة على التّعارف والتّنافس.
لبّى يوم الأحد الرّابع من دجنبر 2022، الدّعوة حشدٌ كبير قارب الألف مشارك جاؤوا من عدّة جهات من المملكة الدّنماركيّة، تعبيرا عن توقير الحدث وتثمينه ودفعا للمجهودات الطّيّبة المبذولة وتشجيعا لحافظ القرآن واحتفاء به في هذه الدّنيا قبل الاحتفاء بنفسه يوم القيامة بالصّعود في المدارج (اقرأ وارتق ورتّل كما كنت ترتّل في الدّنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها). كان المحتفى بهم خمسة قد حفظوا القرآن الكريم، وكان التّكريم تحت إشراف مؤسّسة الوقف بكوبنهاجن، بإدارة فضيلة الشّيخ الدّكتور محيي الدّين عوينات، وثلّة من المعلّمين والمعلّمات الأكفاء.
كان من مظاهر العناية بالقرآن وحفظته إنزال الحفل في أكبر قاعات الأفراح (الألماس)، فإنّ القاعات الجميلة تزداد جمالا بما يحدث فيها، وما كان في الدّنيا أجمل ممّا حدث فيها عند تمام السّاعة الرّابعة بعيد صلاة المغرب، حيث كان الجميع على موعد مع هذا العرس القرآنيّ البهيج بحضور المسلمين من مختلف الأعمار رجالا ونساء وأطفالا، يتقدّمهم لفيف من العلماء والدّعاة والمعلّمين والمعلّمات الأفاضل، وشخصيّات ثقافيّة أخرى على مستوى رفيع.
كانت تلك باكورة الجهد وغدا بإذن الله تتحفّز الهمم ويشتدّ التّنافس فتطول قائمة المحتفى بهم بإذن الله تعالى. وغدا يعتلي منصّة التّتويج كثير من أبنائنا وفلذات أكبادنا.
كانت جوائز هؤلاء الأبناء الكرام عمرة إلى بيت الله الحرام، وكانت جائزة معلّميهم التّتويج برتبة معلّمي النّاس الخير، فقد جاء في صحيح التّرمذي (إنّ الله عزّ وجلّ وملائكته وأهل السّماوات والأرض، حتّى النّملة في جُحرها، وحتّى الحوت، ليصلّون على معلّم النّاس الخير).
جزى الله خيرا كلّ من قام على هذا العمل الطّيّب الرّفيع المبارك، من مشايخ ومعلّمين ومنظّمين.. وقد كنت في غاية الفرح والسّرور بالحضور معهم لأشهد هذا العرس البهيج، وقد سألت المولى الذي جلّت قدرته ألّا تتوقّف هذه المسيرة القرآنيّة، وأن تتأسّى مساجد وجمعيّات ودور عبادة أخرى بمثل هذه التّجربة الفريدة. وفي ذلك فاليبنافس المتنافسون. وعسى الله سبحانه وتعالى أن يجعل من هذا الجيل على قلّته، ومن الذين سيأتون بعدنا، من يستمرّ في أعمال الخير والعناية الكريمة بكتاب الله حفظا وتلاوة وإتقانا وفهما وسلوكا.