صفحات من ذاكرة المهدي المنجرة: الطريق إلى حلم أبي (ح: 1)

صفحات من ذاكرة المهدي المنجرة: الطريق إلى حلم أبي (ح: 1)

برحيل عالم المستقبليات المهدي المنجرة (13 مارس 1933 - 13 يونيو 2013 ) رحل عنا مفكر عربي معاصر من طينة نادرة. رجل أجمع الكثيرون على أنه وطني صادق ونزيه. رجل مواقف ومبادئ، مثقف شجاع. لا يركن إلى المهادنة وتنميق الخطاب. علامة من علامات الثقافة والفكر في العالم. خبير متخصص في علم المستقبليات (وضع تصورات مستقبلية على شكل إمكانات وطرق واضحة للمسيرة البشرية في الحياة). اشتهر المرحوم المهدي المنجرة بجمعه وربطه بين العلم والثقافة، وإعطائهما المكانة التي يفترض أن يساهمامن خلالهما في تطوير أسلوب العيش اليومي، وإبداع مشاريع لتنمية الشعوب. كما تميز بأن كانت كتبه الأكثر مبيعا في فرنسا ما بين سنة 1980 و1990.

"أنفاس بريس" تفتح صفحات من حياة المرحوم المهدي المنجرة، وتروي مقتطفات من سيرته، حسب أجوبته على أسئلة خاصة بجلسات حوار أجراه معه الكاتب المسرحي محمد بهجاجي والشاعر حسن نجمي لفائدة يومية "الاتحاد الاشتراكي"، وقد تمَّ تجميع هذا الحوار في كتاب صدرت طبعته الأولى سنة 1997 بعنوان "المهدي المنجرة (مَسَاُر فِكـْر)".

 

الحلقة الأولى:

تحددت معالم تربية المهدي المنجرة الأولى من الاهتمام المبكر الذي كان يوليه والده رحمه الله لمسائل التكوين والتربية، ولضرورة أن يتمكن أبناؤه من الانفتاح على عوالم وعلاقات ومعارف. لم يكن والد المهدي خريج معهد أو جامعة، ومع ذلك اعتمد على تكوين ذاتي. كان يتحدث ست أو سبع لغات، ويسافر كثيرا حيث أقام خلال الثلاثينات لمدة من الزمن في السنغال ثم ألمانيا وانجلترا، إلا أن اهتمامه الرئيسي تمثل بشكل كبير في المسألة التربوية. كان يمارس التجارة، ثم انخرط فيما بعد في العمل العقاري، لكنه كان إلى جانب ذلك يعاشر العلماء ويحضر منتدياتهم، وهو التقليد الذي كان سائدا في أوساط جميع العائلات، خاصة في المناسبات والأعياد. وكان حظ المهدي وإخوته أن رافقوه في عشرته تلك. وبهذه الطريقة تعرف المهدي المنجرة على الفقيه الشيخ بلعربي العلوي الذي كان يسكن بيتا مجاورا لبيت عائلة المنجرة، وعلى الفقيه الزموري الذي كان يسكن بالدار البيضاء، وعلى عدة شخصيات أخرى. في هذه اللحظة بالذات انغرس في المهدي وإخوته الشغف بالمعرفة والعلم والتربية. شغف اتخذ لدى والده منحى آخر عبر عنه بالتشجيع على خلق بعض المؤسسات التربوية وخاصة مؤسسات التربية المهنية بمدينتي الرباط وسلا. وقد تعزز لديه هذا الشغف حين لم يتمكن من تسجيل أخ المهدي الأكبر (عباس رحمه الله) بـ "ليسي غورو" بالرباط نظرا لطبيعة السياسة الاستعمارية آنذاك. مما دفع بالأب المنجرة إلى أن يتخذ قراره في إرسال عباس إلى متابعة دراسته بمدرسة "شانيل" للتجارة بسويسرا، وقراره بعدم إرسال أي من أبنائه إلى فرنسا لمتابعة الدراسة، وقد سهر الأب مباشرة على احترام هذا القرار، وحين وافته المنية كان جميع أبنائه من خريجي جامعات إنجليزية أو أمريكية.

بالإضافة إلى العنصر التربوي في نشأة المهدي المنجرة الأولى، كانت هناك المرجعية الإسلامية التي كان يعتبرها والده العمل الأساسي الأول والأخير، وهناك أيضا المرجعية الحضارية والثقافية المحلية.

ولد المهدي المنجرة بالرباط في بيت متواضع بحي يوجد خارج سور المدينة كان يحمل اسم "المرصا"، وهو من أول البيوت التي بناها والده هناك، منذ أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات. ومعلوم أن هذا البيت هو الذي يأوي الآن (1997) مقر حزب الاستقلال. بالإضافة إلى اهتمام والد المهدي بتكوين أبنائه تكوينا أصيلا، كان قد استقدم مربية فرنسية إلى بيته لتربية الأبناء، خاصة وأن المرحومة والدته (المهدي) كانت قد عانت من مضاعفات الحمل بأخته، كان عمره آنذاك أربع سنوات تقريبا، والآنسة "ردي" لا تعيش بينهم باعتبارها مكونا من مكونات الحضارة الفرنسية، بل كعنصر وظيفي، إذ أن وجودها كان يفرض على المهدي وإخوته تعلم اللغة الفرنسية، وكان للمربية دور آخر يتجلى في خدمتهم، كما كان والده يستقدم خلال العطل المدرسية معلما فرنسيا، يهتم بتعليمهم دروسا في التربية الوطنية، وكان هذا المعلم ذا خبرة واسعة في الحياة والسفر. كان والد المهدي المنجرة ينحو منحى التكامل والتوازن في تكوين أبناءه التربوي، إذ كان هناك أساتذة مغاربة سهروا على تعميق معرفتهم باللغة العربية وبالدين الإسلامي، وكان أستاذ اسمه إدريس الكتاني يُدَرِّسُ المهدي وإخوته بالبيت أصول اللغة والثقافة العربيتين. تمَّ تعيين أخوي المهدي عمر ونجية، الأول مدير تنفيذي في البنك الدولي بعد حصول المغرب على الاستقلال، وتقلد منصب مدير التخطيط إلى جانب عبد الرحيم بوعبيد ومحمد الطاهري وعبد الغني الصبيحي ومحمد الحبابي وعزيز بلال وآخرين، وكان عمر قد شغل مهمة وزير مفوض في السفارة المغربية بواشنطن مكلف بالعلاقات الاقتصادية إلى جانب الأستاذ المهدي بنعبود، هذا الرجل الذي أثر في تكوين المهدي المنجرة أكثر من أي شخص آخر.. أما أخت المهدي نجية فتعتبر أول مغربية تحصل على شهادة الإجازة من جامعة أمريكية، تماما مثلما كان المهدي المنجرة أول مغربي يلج مؤسسة أمريكية سنة 1948 وأول مغربي يحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة إنجليزية والتي كانت رغبة والده وحلمه.. 

(يتبع)

ملحوظة: العناوين من اختيار هيأة التحرير