أوراق تاريخية...منهاج تعليم الرماية الشعبية على يد أشياخ أحمر بجنوب المغرب

أوراق تاريخية...منهاج تعليم الرماية الشعبية على يد أشياخ أحمر بجنوب المغرب المرحوم العلامة محمد المنوني بجانب مشهد من طريقة حشو البارود

أرّخت سنة 1972 ، لبداية إصدار مجلة الأبحاث العامة "الباحث"، وهي السنة الأولى التي رأى فيها النور المجلد الأول الذي أصدرته وزارة الثقافة والتعليم العالي والثانوي والأصيلي وتكوين الأطر ـ مديرية الشؤون الثقافية بالرباط ـ

وكان ضمن مواد مجلة "الباحث" وثيقة تاريخية ذات أهمية بالغة على مستوى التقديم والتحقيق، عنوانها البارز: "قطعة عن نشاط الرماية الشعبية بالجنوب المغربي"، على اعتبار أن صاحب هذا العمل التوثيقي هو العلامة محمد المنوني، والذي كان يعد من أعلام المغرب، بصفته حارسا على التراث الثقافي، بعد أن خبر المخطوطات والوثائق والكتب، وأصبح رحمه الله خزانة متحركة، ومرجعا أساسيا لكل الدارسين والباحثين في التاريخ والتراث.

في هذا السياق تنشر جريدة "أنفاس بريس" الحلقة السادسة والأخيرة، من مساهمتها في النقاش العمومي الذي تعرفه الساحة الثقافية والفكرية عامة، والمشهد التراثي المغربي خاصة، بعد إدراج فن التبوريدة ضمن قائمة التراث اللامادي بمنظمة اليونيسكو، على اعتبار أن الوثيقة التي بين أيدينا تشكل مرجعا أساسيا لتاريخ مدارس تعليم "الرِّمَايَةْ"، وشيوخها من أهل الحكمة الذين برعوا في تعليم الرماية الشعبية وصناعة البارود.

 برنامج تعليم الرماية الشعبية يخضع للتدرج

في الفصل المتعلق بـ "كيفية تعليم الرماية للراغبين فيها على الوجه الأكمل" حسب منهاج أشياخ ببلاد أحمر، من خلال القطعة التي قدمها وحققها العلامة الأستاذ محمد المنوني، لمؤلفها أبا القاسم بن الهاشمي بن قاسم بن عثمان الشريف العمراني. وهي (قطعة شرح روضة السلوان للفجيجي). في هذا الفصل يقول المؤلف: "...فعلى العبد أن يلقى زمامه بيد شيخ عارف، ناصح لعباد الله تعالى على وصف الأشياخ الذين تقدم ذكرهم، ويكون عند أمره ونهيه، ولا يختار لنفسه إلا ما اختاره له الشيخ".

لقد حسم أشياخ أحمر في أصول ومبادئ تعليم الرماية الشعبية بالجنوب المغربي، حيث تكون الكلمة الأولى والأخيرة لـ "الشّيخ" الذي يلقنها، وهو المسؤول عن تقديم الدروس النظرية والتطبيقية، ويعتبر هو الآمر الناهي في أمور الرماية وما إليها.

لذلك كان من اللازم على أشياخ أحمر أن يتدرجوا في تلقين وتعليم الرماية الشعبية للمريد، مثل ما يفعل المعلم/الفقيه مع الصّبيان في تلقينهم قراءة أسماء الحروف الأبجدية بالهجاء (حرف بحرف)، حيث أوردت الوثيقة ما يلي: "وليكن تعليم الشيخ للمريد بالتدريج، كما يعلم الفقيه الصبي في المكتب (يعني الْكُتَّابْ/ الجَّامَعْ)".

درس القيم الدينية والروحية لدى المريد

من هنا وجب على الشيخ/المعلم أن يلقن المريد مبادئ "الرّماية الشعبية" وفق منهجية التدرج في أخذ المعلومات النظرية، لكن اشترط قبل ذلك، امتحان الناس في دينهم، وصلاتهم، وحفظهم للقرآن الكريم: "فكذلك شيخ الرّماية، ينبغي له أن يعلم الناس بالتدريج. فأول يوم يأتيه الرجل يتعلم عنده ويتخذه شيخه. استخبره في دينه وسأله عن صلته. فإن وجده قليل الدين، قليل الصلاة، أمره بالصلاة أولا، ولازمه اليومين والثلاثة، وعلّمه كيف يصلي، وكيف يتوضأ، وكيف يغتسل..".

لقد كان دور أشياخ أحمر جد مهم على مستوى تعزيز وترسيخ القيم الدينية والروحية بين الناس والتشبث بكل ما يتعلق بالمعاملات وحسن السلوك، والإلتزام بتعاليم الدين الإسلامي، لذلك كان الشّيخ يرفض تعليم أصول الرماية للمريد الذي لا يؤدي فرائض الدين الحنيف حيث ورد في القطعة ما يلي: "فإن أبى أن يصلي، إنما أراد أن يعلمه الرماية فقط، فلا يعلمه ولا يرافقه ساعة واحدة، وإن امتثل أمره وتاب إلى الله من جميع قبيح فعله، علمه حينئذ كما يعلم الفقيه الصبي"، أما على مستوى بداية تلقين دروس الرماية للمريد الراغب فيها فقد أوضح بالقول: "وإن كان تقدم له مخالطة المكحلة وممارستها بلا شيخ فإنه لا يعتمد على ذلك، وليجعل نفسه كأنه لم يرها قط". بمعنى أن كل من يدعي من المريدين أنه يمتلك معارف استعمال البندقية وممارسته للرماية سابقا بدون شيخ، فعليه أن ينضبط لبرنامج أشياخ أحمر وينسى كل ما يعرفه عن الرماية لبداية مشوار التلقين وفق منهاج التدرج.

تعليم الرماية للدفاع عن الأرض والعرض وقنص الطرائد والوحش

وتتأسس مدرسة أشياخ أحمر على مستوى الرماية الشعبية انطلاقا من الدرس الأول المتعلق بواجبات الجانب الروحي والديني حيث يأمر الشيخ المريد بـ "أن يتوضأ ويتوب إلى الله من جميع هفواته، وينوي أنه أراد بالرماية تحصيل السُّنَّة، وليستعين بها على جهاد العدو ومعاش الأولاد".

إن أشياخ أحمر يومئذ، كانوا واعين جدا بأن تعليم الرماية الشعبية من أوجب الواجبات لتكوين الناس على حمل السلاح والدفاع عن الأرض والعرض ضد العدو المغتصب الغاشم، وحماية أهلهم وممتلكاتهم، وزراعتهم وبهائمهم، وكانوا أيضا يعتبرون أن تعليم الرماية تساهم في اقتصاد المعيشة، بالقنص وصيد الطرائد والوحيش. (لحوم وجلد و...).

ويعتمد الشيخ في درسه الأول في الرماية على برنامج دقيق يبتدئ بكيفية القبض على السلاح وحمله، سواء كان الرامي وقفا أو جالسا: "يأمره أولا، كيف يقبض المدفع في حال جلوسه وفي حال قيامه المرة بعد المرة، حتى يصير مهما قبضها وحازها إلى صدره نبتت نبتا حسنا في موضعها كما ينبغي". وقد تدوم فترة هذا الدرس النظري مدة طويلة حتى يتبين أن حامل السلاح قد استأنس مع وضعيات المكحلة وحركات القبض جلوسا و وقوفا.

المرور إلى الدروس النظرية الأخرى ذات الصلة بالرماية الشعبية في تلك الفترة، تعززها حركات واستعمالات أجزاء المكحلة، حيث يمر الشيخ إلى العملية التالية وهي "أن يطلع له الذراع، ويرد له السبيكة، ويأمره بقبضها، وبتسريح عينه مع النيشان، وتحريك القرص"، ويتضح من هذه العمليات المتتالية أهمية الإستئناس مع السلاح دون بارود، من أجل المرور لعملية تطبيق النظريات التي اكتسبها المريد من شيخه: "فإذا نزل الذراع على السبيكة من غير بارود، نظر إليه الشيخ ماذا يفعل برأسه وبعينه، فإن هز رأسه أو طرف بعينه، نهاه عن ذلك، وأمره أن يعيد المرة بعد المرة بلا بارود، حتى تأنس نفسه بضرب الذراع للسبيكة، بحيث لا يهز رأسه ولا يرمش بعينه".

الرماية....من الدرس النظري إلى ميدان التطبيق

في تكرار هذا الدرس النظري مرات عديدة إفادة كبيرة على المستوى البدني والنفسي، بحيث أن التركيز على تطبيق هذه المعلومات دون فزع أو تفاعل سلبي، يبصم على الانتقال لمرحلة حشو المكحلة بالبارود، وإعادة تطبيق نفس العمليات ومراقبة حركات وانفعالات المريد حين سماع صوت البندقية: "حينئذ يجعل له تلحيقا من بارود جيد، لأن التعلم لا يكون إلا بالبارود الجيد". من هنا يتم المرور لتطبيق النظريات المعرفية المكتسبة، على أرض الواقع حيث يأمر الشيخ المريد بـ "أن يقبض، ويحرك القرص. وينظر ماذا يفعل برأسه وعينه، فإن هز رأسه أو رمش عينه نهاه عن ذلك، وأمره أن يعيد، وهكذا حتى تتأنس نفسه بصعود التلحيق مع عينه ولا يرمشها، وحينئذ يعمر له المدفع من بارود جيد، عمارة ويعلمه كيف يعمرها".

إن أشياخ أحمر كانوا يومئذ يقدمون دروسا نظرية متعددة في الرماية تتعلق بكل أجزاء المكحلة، وطرق استعمالها وفحصها، فضلا عن وصف كمية البارود وطريقة نزوله، وكيفية استعمال (لمدك)، ووضعية الرصاص والمسافة المطلوبة بينه وبين البارود داخل الجعبة.

دروس الاستئناس بالسلاح ومسافة إصابة الهدف

المرور للدرس التطبيقي في الرماية واستعمال الطلقات الحية، لإصابة الهدف كان من أصعب برامج التعليم، على مستوى امتحان قوة تركيز المريد وقدرته على إصابة الهدف أمام شيخه وفق الضوابط المعمول بها حينئذ: "يجعل له إشارة (هدف)" ثم يطلب من المريد إصابة الهدف، والذي كان في أغلب الأحيان عبارة عن أحجار مرتبة أفقيا: "يجعل له أحجارا، خمسة أو سبعة ويركب بعضها فوق بعض مثل السور"، وحدد أشياخ أحمر مسافة الرّمي الفاصلة بين المريد والهدف في "خمسة عشرة خطوة".

التعامل مع سلاح البندقية في أول الأمر كان يشعر المريد بالدهشة، والرعشة والخوف من الفشل وعدم إصابة الهدف لذلك كان الشيخ لتجاوز مشكل الارتباك النفسي والبدني: "يأمره بأن يقبض، وأن يجعلها في وسط الحجر، ويحرك القرص برفق ولا ينثره نثرا، فإذا انهدم الحجر بعضه على بعض اطمأنت النفس وتأنست وطارت الدهشة، فكم من واحد إذا أراد أن يضرب ترى مفاصله كلها ترتعد كالمرتعش، فإن لم تكن الرعدة في المفاصل كانت في القلب لا محالة".

وكانت هذه العملية تستمر وتدوم لوقت طويل حتى يتمكن الرامي من قدف الأهداف كلما تباعدت المسافة وصغر حجمها حيث يتدرج المريد في رمي الحجارة وينقص له الشيخ عددها كلما أجاد الرمي: "لذلك جعلوا الأشياخ هذه الإشارة على هذه الصفة التي لا يخطئها أحد، وما ذلك إلا لنزول الدهشة. ثم يجعل له ثلاثة أحجار يركب الثالثة فوق الإثنين، ويأمره بأن يضربهما عند التقائهما. ثم يجعل له حجرين واحدة فوق واحدة، ويأمره بأن يضربهما عند التقائهما. ثم يجعل له حجرا واحدا ويأمره بأن يضرب في وسطه، وذلك كله في المكان الأول، وينقل له الحجر بخطوتين أو ثلاثة، ويأمره أن يضربها، ولا يغفل عنه في كل ضربة، ينظر إليه ماذا يفعل بعينه ورأسه أو فساد قبضه".

لقد حدد أشياخ أحمر يومئذ المسافة الجيدة التي تؤمن تعليم المريد ليصبح رَامْيًّا حقيقا، وهي التي قال فيها صاحب القطعة: "قالوا قدر موضع الإشارة هو أن تُقَدِّرَ بعقلك أن الوحش إذا كان هناك ونظرت إليه تبينت لك حبة عينيه في رأسه، وإن نظرت إليه وبان لك رأسه ولم تتبين لك حبة عينيه من رأسه فهو بعيد، وضربه مصادفة فقط، وكذلك الإشارة في الموضع البعيد الذي لا يتبين لك فيه عين الوحش، فالإشارة فيه بعيدة وضربها مصادفة فقط، لأن مدار الرماية كلها على تحقيق النظر وتيقن مقابلة فم الجعبة مع الحاجة، والبعد لا تتحقق لك معه مقابلة ولا ينتفي لك معه الشك في المقابلة".

أخطاء الرماية وفق منهاج أشياخ أحمر

وأوضح المؤلف بأن من واجبات الشيخ أن "يبين للمريد وجوه الخطأ، وقد اختلفت الأشياخ في عدد وجوه الخطأ، فمنهم من حصرها في ستة عشر وجها، لكون الخطأ إما أن يكون زيادة أو نقصا أو يمينا أو شمالا، وفي كل واحد أربعة أوجه"، ومن بين أخطاء الزيادة الواردة في منهاج تعليم الرماية "انحدار الراية وتسريح اليد فوق الوزنة، وإظهار ظهر الجعبة جدا، والزيادة في العمارة أكثر من القدر المعلوم، (يقصد عمارة البارود)، أما على مستوى بيان خطأ النقص، رفع الراية، والقبض دون الوزن". وأستطرد في توضيح ذلك إلى أن قال: "...وكذا إذا كان جالسا و وضع يده على ركبته فيجعل ذراع يده مبسوطا وراء شاشية ركبته، ويحذر عقله في كل شيء، لكي لا تقع له فَلْطَةْ، في يده وفي عينه وفي نفسه. فإن كان عقله معه واعيا في أموره كلها أخذ حاجته إنشاء الله لا محالة".

وجاء في الوثيقة أن هذه هي الطريقة التي كان أشياخ أحمر ينهجونها في تعليم الرماية ولذلك كان "السلطان المولى إسماعيل يرسل عبيده يتعلمون الرماية على يد الأشياخ في قبيلة أحمر، وكان يدفعهم لأولاد يرو، وبقيت تلك العادة فيهم يعلمون عبيد الملوك....وكان لهم وقت معلوم للتعليم، وكان العبد يمكث يتعلم قبض المكحلة الشهر ونحوه، وهم في التعليم متفاوتون كل واحد منهم على قدر عقله وفطانته.. ولا ينتقل من حالة إلى ما بعدها حتى يتعلم الأولى ويأنس بها". انتهى