أشرف حمودة على الخروج من سنته الخامسة من العمر، كان الوقت حارا، وأهل القرية على وشك الانتهاء من مرحلة تجميع المخزون السنوي من القمح والشعير والذرة، وما بينها.
لاحظ حمودة حركات غير عادية بالمنزل الكبير لجده، هو منزل كبير مبني من الطين، يظم طابقين، تعددت غرفه بتعدد ساكنيه، من أصول وفروع وأحفاد، جميع نوافذه كانت داخلية، كغيرها من منازل الدوار، لم تكن هناك على الأسوار الخارجية سوى فتحات صغيرة، تلك كانت ميزة أبنية "قرية أولاد عميار"، الباب الكبير، يؤدي بك عبر ممرطويل إلى فناء واسع للمنزل، حيت تجد ممرات لمأوى الدواب ، وأدراج تؤدي إلى عدد من البيوت والغرف الموجودة بالطابق العلوي، من هناك يمكنك المرور عبر ممر ديق لغرفة كبيرة في أعلى المنزل، خصصت للسي محمد الابن الأكبر المقبل على الزواج...
في الطريق إلى مسجد القرية، رافق حمودة خاله سي محمد، بعد أن ألبسوه بعض الثياب الجديدة، كانت المناسبة هي زواج خاله للمرة الثالثة، بعد تطليق ما سبق، بمجرد دخول المسجد بدأ أبو حمودة يبتسم معه ويطبطب على رأسه، استغرب حمودة من تصرف والده، وهو فقيه القرية المعروف بالصرامة حتى مع زوجته وأبنائه الأربعة.
كان حمودة ينتقل من بيت والده إلى بيت جده، عبر مسالك ضيقة، رغم المسافة القريبة بين المنزلين، كان على حمودة أن يمر عبر منحدر، غير عابئ بإمكانية السقوط، ينحدر ويتماسك، وبين الفينة والأخرى تتبعه أحجار تنزلق من مكانها عبر المنعرج.
حركة التهيئة لحفلة الزفاف قائمة على قدم وساق، الكل منخرط في تدبير بعض الأمور، والكل يتحدث عن عريسين، لم يدرك حمودة أول الأمر أنه أحد المقصود بالعريس الثاني، لقد قرر جده أن يحتفل بختانه مع زفاف خاله.
استوعب حمودة أنه مستهدف بشيء ما، بعد اهتمام الكل به، وظهور علامات القلق على والدته وهي تكرر احتضانه بشكل غير مألوف، ادرك من خلال كلام بعض زملائه الصغار، أن الحاج إدريس سيأتي هدا الصباح ليقتلع شيئا ما من عضوه، انتابه شعور بالخوف وهو يتحسس المكان المستهدف، قرر الفرار لبيت جده الكبير... هناك اختبأ عن الأنظار في أحد البيوت المظلمة المخصص لتخزين العلف والمواد الفلاحية، أحس بلسعات بجلد يديه وضهره، بدأ يحك أمكنة الألم، حينها تذكر وصية جدته، وهي تحدره من الاقتراب من أكياس " الفول " ، أدرك مصدر الألم، خرج من مخبئه ليفاجأ بخاله وهو يبحث عنه بفناء المنزل.
أطبق الخال قبضته على رقبة حمودة مردد " حْصَلْتِ ألْعَفْريت" رافق حمودة خاله للبيت الثاني حيث ستتم مراسيم الختان، كان الكل هناك.
في مكان مرتفع من فناء المنزل، كانت أم حمودة تقلب أرغفة الخبز في الفرن التقليدي، ونظراتها البائسة تتابع حمودة، ارتفعت زغردات بعض فتيات القرية، ودقت الدفوف في تناسق طروب، مع ترديد " ألْحَجامْ الْعَار علِيك هَا ولِدي بِين يدِيكْ " استسلم حمودة لمصيره وألمه، لم ينفعه شيء مع القبضة القوية لأحد الجيران، انتبه لأمه وهي تضع موسا بين أسنانها، ورجلاها مسمرتين في كسعة من الماء، والنسوة ترددن الزغاريد وتلك الجمل الموجهة للحجام.
كان الحاج ادريس في زاوية من الفناء، محاطا بإزار أبيض يشد طرفيه شابين، ،على شكل خيمة ، يجلس الحاج على كرسي صغير ( طابوري من الخشب)، وضعت بين رجليه قفة صغيرة نصف مملوء بالتراب، لم يدرك حمودة مغزى ابتسامة الحاج ادريس، أو حين قال له: "انظر سبنية أمك (فولار تقليدي) لقد أخدها الريح"، مع التفاتة حمودة أحس بشيء ما جُزَ من عُضْوِه، وضع الحاج نصف بيضة مقشرة، بها أصفر البيض فقط، تلك كانت وسيلة لإيقاف النزيف وجبر الضرر، حمل حمودة للغرفة المجاورة، لم تسكته قطع اللحم أو البيض المسلوق المهدى له، ولم تفلح زغاريد أمه في أذنيه، كان بجابه ابن عمه الذي يتجاوزه بسنتين، تقاسم معه اللحم والبيض.
في المساء بدأ حمودة يتجول بصعوبة، وبعض قطرات الدم ظاهرة على قميصه الأبيض، سأل أحد الأقارب عن سر القفة النصف مملوءة بالتراب، أوضحوا له، أن الحاج ادريس دفن فيها ما جزه منه، ورماها في مكان ما بجانب البيت، قرر وهو المتمرد الصغير، أن يبحث في ركام التراب عما كان يمتلكه، قلب التراب كومة كومة، لم يجد ضالته المنشودة، رجع بخيبة أمل للبيت، تناسلت بعض الأسئلة من ذهنه:
لماذا كانت أمي تضع آلة حادة في فمها؟
ما سر وضعها لأرجلها في الماء؟
لماذا يردد الحاج ادريس جملة واحدة عند كل عملية؟
ما سر الزغاريد في الأذنين؟ لماذا وضع صفار البيض دون بياضه؟