جلال الطاهر: مؤتمر جمعية هيئات المحامين.. واقع وتحديات

جلال الطاهر: مؤتمر جمعية هيئات المحامين.. واقع وتحديات جلال الطاهر
من المعلوم أن جمعية هيئات المحامين بالمغرب تأسست منذ ما يزيد عن نصف قرن (1962)، بحيث يمكن اعتبارها فاعلاً وشاهداً على التطور الحقوقي والسياسي بالمغرب خلال هذا العمر المديد من حياتها، ويمكن التأكد من ذلك - لمن أراد - بالرجوع لمقررات مؤتمراتها وما كانت تسجله من معاينات للوضع الحقوقي والسياسي والاجتماعي بالبلاد، بحيث يمكن اعتبارها مرجعاً أساسياً لمن يرغب في مواكبة التطورات الحقوقية والسياسية منذ السنوات الأولى للاستقلال إلى اليوم، ويكفي للتدليل على ذلك، التذكير بأن هذه الجمعية كانت مصدراً لمعرفة مقرات الاعتقال السري التي شهدتها سنوات الجمر والرصاص.
 
كما أن البيانات الختامية لكل مؤتمراتها، كانت تطالب وتلح – من جملة مطالب أخرى- على ضرورة فصل القضاء كسلطة من سلطات الدولة عن السلطة التنفيذية، حتى يتأكد بالفعل، والواقع استقلال القضاء، وظل هذا المطلب ثابتاً في كل مواقف جمعية هيئات المحامين بالمغرب، ولم ييأس المحامون المغاربة خلال كل مؤتمرات هذه الجمعية، من الاستمرار في الثبات والعمل والمساعي الحثيتة، لتحقيق مطلب استقلال القضاء الفعلي، عن السلطة التنفيذية، بالرغم من مواجهة الدولة لهذا المطلب وغيره، بآذان صماء، وكانت تعتبره مطلباً طباويا غير قابل للتحقيق، نظراً لطبيعة البناء المؤسسي للدولة، التي تعتبر أن السلطة التنفيذية، يجب أن تظل سلطة لها الكلمة على باقي السلطات، إلا أن إعراض الدولة عن سماع صوت المحامين المعبر عنه في مؤتمرات جمعيتهم، لم ينل من صمودهم وقوة عزمهم، على مواصلة المطالبة وبأقوى العبارات، في تناغم مع مواقف الأحزاب المغربية، والوطنية منها خاصة، التي كانت تتجاوب مع مطالب جمعية هيئات المحامين بالمغرب، وتعكس هذه المطالب ضمن بيانات مؤتمراتها الوطنية.
 
إن إعلان الموقف والاستمرار في الدفاع عنه والثبات على المبدأ والاستعداد لتحمل تبعاته وعواقبه، في أدق الفترات من تاريخ المغرب الحقوقي والسياسي، في استحضار للتطلعات الحقوقية والاقتصادية والمهنية للمحامين بالمغرب ولقواه الحية، حتى تحقق المطلب الأساسي الذي كرست له الجمعية كل جهودها، ألا وهو، مطلب استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والتنفيذية ، بل واستقلال النيابة العامة نفسها ، عن وزارة العدل. وذلك بصدور دستور 2011 ، الذي يمكن أن يقال بأنه صدر عما يمكن تسميته (( هيئة تأسيسية)) ، وهذا الشكل الذي وضع به دستور 2011 كان أيضاً ، من مطالب جمعية هيئات المحامين بالمغرب.
 
وبناءً على ما ذكر ولغيره، فإن على المحامين وهيئاتهم أن تستحضر، كل هذا الرصيد النضالي الحقوقي، وهي تتداول وتتدارس، واقع مهنة المحاماة اليوم، واستحقاقات المرحلة، وما تتطلبه من شروط، بعد التغييرات الكبيرة في هيكلة مؤسسات العدالة بعد دستور 2011، وفي مقدمتها السلطة القضائية، التي أصبحت سلطة قائمة على قدم المساواة، مع السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأصبح للقضاة جمعيات مهنية مختلفة ومتعددة رجالية ونسائية، تطالب بجسارة بحقوقها في توسيع الممارسة الجمعوية في أوسع نطاقها، وتذوذ عن أعضائها بجرأة وجسارة، في ضرورة تحقيق المطالب المعنوية كالحق في التعبير، والمطالب النقابية كتحسين الأوضاع المادية والاجتماعية... وبصفة عامة خلق الشروط للتجسيد الفعلي لاستقلال السلطة القضائية، وفعلاً فقد تحقق غير قليل من ذلك ومازال الكثير ينتظر.
 
وبالمقابل، فإن مهنة المحاماة، عوض أن تشهد تطوراً إيجابياً، باعتبارها مهنة تشارك القضاء، وتساهم في تحقيق المحاكمة العادلة، وبهذا الاعتبار فهي تشكل طرفاً وازناً في سلطة القضاء، فكان من الطبيعي، أن تنعكس التطورات التي عرفها القضاء، دستورياً وقانونياً واعتبارياً على المحاماة رؤية وهيكلة، إلا أن الواقع يشهد اليوم تردياً على كل المستويات، المادية والمعنوية والسلوكية، بحيث أن أوضاع اليوم توجب على أي مسؤول مهني أو محام عادي، أن يستوعب ويرصد ويسيخ السمع لأنين مهنة المحاماة، وما تعيشه من تقهقر وتراجع،لا ينكره إلا جاحد أو جاهل، نتيجة واقع ، يعاند ويقاوم أي تطور إيجابي لمهنة المحاماة، تساهم في ذلك عقليات سلطوية تعيش خارج العصر، يتأكد ذلك من خلال الاختيارات التشريعية، التي تنتهز أية فرصة للتضييق على الممارسة المهنية، بغاية الحجر عليها بالحد من حرية المحامي في ممارسة مسؤوليته المهنية، واختلاق الأسباب للتشويش عليه ومضايقته ((واتهامه)) حتى يجسد ذلك خاصة وزير العدل، بهذيانه وشطحاته، ومشروع الحكومة الضريبي الذي يؤكد جهل واضعيه بطبيعة مهنة المحاماة وواجباتها وتحملاتها، والذي خلق فتنة اجتماعية لا يعلم آثارها إلا الله.
 
هذا عن الجانب المعنوي والاعتباري ، يضاف إلى ذلك التضييق على الممارسة المهنية وتقليص فرص العمل، ومظاهر ذلك عديدة يضيق المقام عن تعدادها، ولتأكيد ذلك يمكن الرجوع إلى مشاريع القوانين المعروضة على البرلمان اليوم، التي لا تتناغم مع السياق العام لتوجهات العدالة عامة، الذي لا يمكن أن يكتسب مشروعيته وفعاليته إلا بوجود محاماة موحدة، تقوم بمهامها وتتحمل مسؤوليتها ودورها في تحقيق العدالة في بلد يسعى لأن يكون ديمقراطياً .
 
هذه هي الصورة المختصرة للمهنة، التي يجب أن ينظر إليها ويتفحصها السادة النقباء وأعضاء المجالس، وجعلها مصدر إلهام لهم، في قراءة الواقع المهني المريض من جهة، والمستهدف من جهة ثانية، برؤية مستوعبة للمرحلة، ومدركة لتحدياتها على جميع المستويات حتى تكون خير خلف لخير سلف.
 
وإذا كان عنصر الزمن وتغيرات الواقع الموضوعي والذاتي للمحامين وهيئاتهم، يفرض اليوم إعادة النظر في هيكلة جمعية هيئات المحامين بالمغرب، نظراً لأن ظروف التأسيس تختلف عن ظروف اليوم، فإن تحديث الإطار يصبح ضرورة وهدفاً عملياً، اعتباراً لكون الغايات والأهداف، أهم من الوسيلة، التي ما هي إلا أداة لتحقيق هذه الأهداف، في توافق عقلاني بين تمثيليات المحامين على الصعيد الوطني، بعيداً عن الشوفينية والجهوية المقيتة والذاتية، التي لا تـــؤدي إلا إلـى التجزئة، وإفقاد الجســم المهني القوة التي توفرها له الوحدة والتماسك، وصلابة الرأي الموحد، وسد كل الثغرات المحتملة، التي قد تكون فرصة تغري الجهات الحكومية بالتسرب منها للتهرب من تحمل المسؤولية، بذريعة وجود آراء لتعابير وتمثيليات مهنية مختلفة الرأي، وعلى الله قصد السبيل.
 
إن هذه القضايا والانشغالات، التي تعيشها مهنة المحاماة اليوم، يجب أن تكون في مقدمة جدول أعمال مؤتمر جمعية هيئات المحامين بالداخلة، هذا المؤتمر الذي يجب أن تؤكد من خلاله، أنها فعلاً وفية لماضيها ومواقفها التاريخية المشهودة، وقراراتها الرائدة التي أثبت التاريخ صوابها وحكمة ورشد من أصدرها، حيث كانت تدافع عن المؤسسات عامة والعدالة بصفة خاصة، إلا أنها أصبحت اليوم ملزمة، بالدفاع عن نفسها وكيانها وفعاليتها ووفائها لالتزاماتها الأخلاقية والحقوقية، وفي مقدمتها كرامة المحامي وصيانة مجد المحاماة والذوذ عن حياضها المستهدف اليوم أكثر من أي وقت مضى.
ولكن هيهات هيهات أن ينال الأدنى من الأعلى!.
 
ذ.جلال الطاهر/المحامي بهيئة الدار البيضاء