بعد جولات من محاولات أصدقائه من المثقفين والصحافيين لدفعه نحو الحديث عن تجربة الاعتقال السياسي التي عاشها، أخيرا، ولأول مرة، ينجح الشاعر والأديب عبد القادر وساط في جر القاص أحمد بوزفور نحو الكلام، وذلك من خلال الكتاب/ الحوار الذي صدر عن منشورات عكاظ، بعنوان: "الخيول لا تموت تحت السقف".
يقول بوزفور: "لا أحب الحديث عادة عن هذه التجربة. لماذا؟ أتساءل الآن وقد حشرتَني في الزاوية. وها أنذا أمد قرون استشعاري وأتحسس ـ كسراق زيت (حاصل) ـ منافذَ الهروب.
طيب. يبدو لي أنني كنتُ أهرب من شبهة استغلال اعتقال قصير وقديم، لكي أنخرط في سلك المعتقلين السياسيين وضحايا سنوات الرصاص، هؤلاء الذين أحبهم وأحترمهم وأعتبرهم، الشهداء منهم خاصة، نجوماً أهتدي بها في قناعاتي ومواقفي· ومع ذلك، وبغض النظر عن الجانب السياسي للتجربة، يمكنني أن أستكشف بفضلك الجانب النفسي منها· لكن عليّ أن أحكيها أولا:
كنت في حوالي العشرين من عمري، مغموراً، من جهة، بالتعبئة الحماسية التي قامت بها الحركة الوطنية للناس في بداية الاستقلال، حين فتحَتْ أمامهم آفاقاً واسعة من الأمل الوطني انعكست في الإقبال الهائل على التعليم، والانخراط الواسع في السياسة واكتشاف الفنون الحديثة (المسرح على الخصوص)... إلخ. ومبهوراً، من جهة أخرى، بعالم جديد ولذيذ ينفتح أمامي، هو عالم الأدب، الذي بدأت أنهل منه، كما ينهل العطشان من بحر... لا يزيده الوِرْدُ إلا عطشا.
جمعتني داخلية الثانوية الجديدة: الشراردة ـوبالمناسبة، لم أنتقل من القرويين إليها كما جاء في سؤالك، بل هي القرويين وقد انتقلَتْ من نظام التعليم في مسجد إلى نظام الطاولات والسبورة الحديث في ثكنة عسكرية، هيئت لكي تكون القرويين الجديدةـ جمعتني بأصدقاء جُدُد، لهم نفس اهتماماتي السياسية والأدبية، فأشعلنا القرويين حماساً· قمنا بأنشطة ثقافية في الداخلية: محاضرات وندوات وعروض... أنشأنا مجلة حائطية· أسسنا حلقة أدبية، كان معنا فيها الكاتب المغربي المعروف الأستاذ محمد عز الدين التازي... خضنا إضرابات قصيرة ناجحة، من أجل تحسين أحوال الداخلية، ثم أحوال الدراسة... بعد ذلك، قمنا بالإضراب الكبير من أجل إصلاح التعليم··· إضراب امتد إلى كل مؤسسات التعليم الأصيل في المغرب· عقدنا مؤتمراً سرياً لطلبة التعليم الأصيل، وخرجنا من المؤتمر بمطالب محددة، تتغيى التحديث، وبلجنة وطنية لإدارة الإضراب العام، كنتُ أحد أعضائها.
كان وزير التربية الوطنية حينئذ قد عقد مناظرة حول التعليم في المعمورة ودعانا إليها. تناقشنا مع الوزير بحدة في مكتبه، وتناقشنا مع المسؤولين في المناظرة بحدة أشد، فقرروا اعتقالنا· هربنا من المناظرة، وطاردونا في غابة المعمورة كاللصوص. رجعنا إلى فاس وتابعنا الإضراب وقاطعنا الامتحانات، وكانت سنة بيضاء. عدنا إلى الدراسة بعد مفاوضات مرهقة، تخللتها اعتقالات وإطلاق سراح...
خلال السنة الموالية، وفي أوائل مارس سنة 1966، اعتقلوا بضعة أفراد منا، كنتُ ضمنهم· لبثنا في الكوميسارية المركزية بفاس حوالي 15 يوماً. كانت الكوميسارية على الشارع الذي كنا نسمع حركته· وحين تشتد هذه الحركة في العشايا، كنا نرفع أصواتنا بقراءة القرآن حتى يسمعنا الناس في الخارج، وكان رجال الشرطة يشتموننا بالألفاظ البذيئة ويضربوننا بالهراوات وهم يأمروننا بالسكوت، فنرفع أصواتنا أكثر وأكثر· كنا نلعب معهم لعبة القط والفأر. في الأخير، وضعوا (الباندات) على أعيننا والقيود في أيدينا وحملونا ليلا في (الصطافيطات) إلى مطار مكناس العسكري، حيث حشرونا في طائرة عسكرية رديئة لا مقاعد فيها. أجلسونا على أرضية الطائرة الحديدية· واكتشفنا أننا لسنا وحدنا· وبالحديث الهامس، عرفنا أن معنا زملاء أتوا بهم من مراكش ومكناس ومن الجامعة بفاس. كنا بضعة وعشرين فرداً. وحين حلقت الطائرة، كان التخمين الغالب بيننا هو أنهم سيلقون بنا في البحر، فتشَهّدْنا وتوادعنا وخلدنا إلى الصمت. بعد حوالي ساعتين، درجت الطائرة على الأرض، وأنزلونا. الظلام· والصمت. أدخلونا قاعة في المطار الصغير وطلبوا منا أن نصطف وجوهنا إلى الحائط، فكان التخمين أنهم سيعدموننا بالرصاص. سمعنا، والباندات على أعيننا، حديثاً خافتاً وخرخشة أوراق... وساد الصمت. ثم أزواحوا عن أعيننا الباندات، فرأينا بدل البوليس عسكرا· أركبونا سيارات الجيش، التي عرفنا مما كتب على بعض جيباتها أننا في طانطان، وحملتنا السيارات إلى ثكنة عسكرية كبيرة وواسعة. تكلم معنا الضابط (أذكر أنه كان نقيباً)، وقال إننا في ضيافة الجيش وإنه ـ كمسؤول عن الاحتفاظ بنا ـ لا يهمه الأسباب التي اعتقلنا من أجلها. ما يهمه أساساً هو أن نتعاون معه، من أجل تسهيل إقامتنا حتى يستردونا.
أصبحنا ضيوفا معتقلين. عاملَنا الجيشُ باحترام (حتى لقد فكرنا أن من الممكن استقطاب بعض الضباط والجنود منهم)، ولكنه فرض علينا حياة عسكرية· كنا نفيق في الفجر... نمارس الرياضة... نعمل مع العسكر في بناء أسوار الثكنة بالطريقة الصحراوية (ربط الأعواد بالسور وشحن الفراغ بينها بالتراب ودكه بالمداكّ. لا حجر ولا لبِن ولا حديد)، وفي التنظيف والطبخ. نأكل مع الجنود، ونأوي إلى قاعة كبيرة خصصوها لنا· تعارفنا. كان الجدد بالنسبة لي هم طلبة الجامعة. أذكر منهم الصديق العزيز الأستاذ عبد الغني أبو العزم، الذي قويت صلتي به في العام الموالي، حين دخلت الجامعة.
قضينا في ضيافة الجيش شهرين أو ثلاثة... ثم أطلقوا سراحنا. كان الوداع حميمياً، وبالدموع. أحببناهم وأحبونا. ولاتزال صورة القبطان في ذهني حتى الآن: ضابط شاب، أنيق، مثقف، شدي التهذيب. يتكلم بصوت خافت وحازم، ويبتسم أحيانا، ولكنه لا يفقد أبداً جديته واحترامه. وكذلك صورة المرشد. لم أعد أذكر اسمه، كان مرشداً للعسكر في تلك الثكنة، وهذه المهمة تقتضي أن يرشد العسكر إلى دينهم، يعرفهم بالصلاة والصيام، ويعظهم بالسيرة وبالقرآن والحديث. أظنه كان موريطاني الأصل، وكان ملماً بعلوم الدين واللغة. فوجىء، في البداية، حين عرف أن من يريد أن يرشدهم ضليعون في تلك العلوم، وبدل أن يتضايق، فرح وتحمس وانخرط معنا في نقاشات لا تنتهي في اللغة والدين. كان باشّاً طلق الوجه، بلحية خفيفة وخَطَها الشيب، وبنفس طيبة وروح مرحة... أعطونا تذاكر على شركة (ساطاس) للنقل، ونقوداً لطعام الطريق، وعدنا إلى مدننا.
طيب· يمكنني أن أقرأ الآن هذه التجربة... أن أحاول على الأقل:
ـ أعتقد أنها وسعت أفقي وفتقت ذهني بشكل جعلني أكبر في عدة أشهر عدة سنوات، وذلك من خلال المناقشات التي كنا نجريها بيننا ليلا في مهجعنا. كنا نتناقش في السياسة والأدب والفكر والتاريخ بتوسع، وبحدة أحيانا، حتى لقد كنا نَتّهم بعضنا بالجبن وحتي بالخيانة، ونشتبك أو نكاد بالأيدي، فيفصل بيننا حكماؤنا الأكبر سنا وتجربة: الأخ محمد الملاقات، زعيمنا نحن طلبة القرويين، والأستاذ العلمي أو الأستاذ النخلي من طلبة الجامعة. وكنا نغني أحيانا (لايزال في ذهني حتى الآن صوت الأستاذ العلمي الرئيس، فقد كان قبل الاعتقال رئيس مجلس القاطنين بالحي الجامعي بظهر المهراز، وهو يغني: على بلد المحبوب لأم كلثوم)، أو نحكي الحكايات التي جرت لنا أو سمعناها، أو ننشد الأشعار التي نحفظها... جعلني ذلك كله أحس بالمغرب وطنا (كنا نمثل كل جهات المغرب تقريبا)، وبالمغاربة شعباً وثقافة، وأحس بشخصيتي وهي تبرز وتتكون... ولعلي في تلك الفترة بالذات وخلال المناقشات السياسية والثقافية التي كان زملائي يسخرون فيها من نصوص جميلة كنت أحبها، ويعتبرونها رومانسية أو بورجوازية... إلخ، لعلي في تلك الفترة بالذات، قررتُ أن أكون كاتباً لا سياسياً.
ـ وأعتقد أنني عرفت خلال هذه التجربة الطاقة النفسية الهائلة للصداقة· يقول التوحيدي: (الصديق آخر هو أنت)· أن ترى نفسك في آخر... وأن ترى الآخر في نفسك... الصداقة إدام الحياة. تساعدنا على أن نحيا. قد لا يعطيك الصديق شيئاً، ولكنه يستمع إليك ويفكر معك ويقترح عليك... وكل ذلك يجعل ذهنك يتحرك ونفسك تهدأ وطعم الحياة يُستساغ.
كنا أصدقاء ورفاقاً. لم أعد أذكر الرفاق، ولكن الأصدقاء لايزالون حتى الآن أصدقائي... أطال الله أعمار الذين ما يزالون منهم أحياء.
ـ وأعتقد أنني قد انحزتُ نهائياً، ومنذئذ، إلى الفقراء والمظلومين والضعفاء... انحيازاً نفسياً لا سياسياً، أعني ليس فقط إلى الذين تضطهدهم السلطة، بل أيضاً، وأساساً، إلى الذين يضطهدهم المجتمع... إلى الأطفال والنساء والسود والعاهرات والمجانين والسكارى والخارجين عن الإجماع. أصبحت أنفر ـ نفسياً لا فكرياً فقط ـ من الإجماع حتى على الصواب، وأميل إلى المختلف والنشاز، ميلاً فنياً ربما. الفن لا يحب الجماعي والعام، بل يحب المختلف/ الخاص. يقول الأثر: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية· طيب· أنا أحد خرفان الغنم القاصية. هل أكلني الذئب؟ طبعاً· الذئب الذي أكل يوسف.
ـ هل لهذه التجربة أثر في كتابتي؟ أكيد· ورغم أنني أتجاهلها عادة، إلا أن الأثر قد يكون عميقاً··· أعمق حتى من وعيي. جذراً في الدلالة أو في الرؤيا إن لم يكن صوراً وكلمات· يطفو على السطح أحياناً... في قصة (صياد النعام) مثلا، ويرسب كالنسغ في قصص أخرى أو في آرائي ومواقفي ونمط حياتي وطبيعة سلوكي وعلاقاتي··· كأنها أمي هذه التجربة· أمي الثانية· ياه... كم لنا من أمهات!! نعم (سأظل أولد حتى أموت)".