أمضيت سنوات طويلة وأنا أتحدث عن رغبة جامحة تغشاني لزيارة عاصمة كاتالونيا. كلما اقتربت من وضع خطة لتنفيذ رغبتي، إلا ويأتي أمر ما يعترض طريقي، فيتبخر كل شيء. هذه المرة، اغتنمتها فرصة وقررت تنزيل هذا الحلم على الأرض، سيما وأنها رغبة جاءت مقرونة بأخرى، لتنظيم حفل توقيع كتاب.
وأنا أهم بصعود درج الطائرة، تعثرت قليلا. على الباب، قابلتني مضيفة حسناء بابتسامة عذبة. انتابتني رجفة خفيفة، وتعلقت عيناي بها لثوان حتى كاد يهتز فؤادي. فجأة، قفز إلى ذهني بورتريه الفتاة الغجرية الشهير للفنان الهولندي فرانز هولس، الذي عرف عنه رسم شخوصه بمزاج مبتهج وملامح عفوية. رحبت الفاتنة بي بصوت دافئ يتناغم مع أنوثة مستفزة:
- تفضل سيدي، رقم مقعدك 18c بجوار النافذة!
حلقت الطائرة باسطة جناحيها في رحاب السماء، وبدت السحب كسجاد أبيض ناعم يححب رؤية المدينة. كلما صعدت الطائرة في الفضاء، كلما تقلص حجم مدينة طنجة وهي تتوارى عن ناظري رويدا رويدا.
بعد ساعة ونصف من التحليق، اخترقت الطائرة أجواء برشلونة، وظلت تحوم حول مطار ألبرات استعدادا للهبوط. ألقيت نظرة فاحصة عبر نافذة ضيقة مستديرة، لأجدني محلقا فوق غابة خضراء، ومياه زرقاء راكدة. سرعان ما ترامى بصري على ضريح ضخم من رخام أبيض، وقد لفته أشجار صنوبر كثيفة. هالني منظر ضريح القديس رامون وهو يرتاح في هدوء فوق جبل سان بوي الصامد.
ما أن غادرت باب المطار، حتى هاجمتني لفحة حر مباغتة. كان التعب قد نال مني مبلغه، والعرق يرشح من وجهي المحمر. ألفيت سائقا ذا طبع ودود ينتظرني في سيارة ستروين، ما لبث أن انطلق مسرعا نحو إقامتي بشقة مريحة وسط مدينة سان بوي على تخوم برشلونة.
الوصول إلى ساحة كاتالونيا لم يكن بالأمر الصعب، خلال نصف ساعة سأجدني خارج مقهى زوريخ الشهير مع مصطفى. من هذه الساحة وبالقرب من النصب التذكاري لفرانشيسكو ماسيا، سأنطلق في اكتشاف شوارع، ومسارح، ودهاليز مدينة "زهرة النار" كما يسميها البعض. مصطفى صديق مثقف يتقن عدة لغات، يجمعني به تاريخ قديم وحنين إلى ماض جميل بمدينتنا. أذكر لما كنا مراهقين لا نمل من مطاردة فتيات جميلات بساحة اسبانيا بالعرائش. أحيانا كنا نتردد على دار الشباب المطلة على شرفة الأطلسي لتتبع أنشطة جمعية لاميج. بعد مضي أكثر من ثلاثين سنة، ها نحن نلتقي مجددا، ويتحول إلى دليلي السياحي كعارف بعوالم ودروب برشلونة الضاربة في عمق التاريخ. مدينة عشقها مصطفى الى حد الثمالة، واستوطنها منذ الثمانينيات من القرن الماضي.
يحز في قلبي أن أعترف أنني اتصلت بصديق قديم لا يقل أهمية عن مصطفى. هو الآخر لدي معه ذكريات جميلة خلال مشوار الدراسة. مشوار زمن بريء حيث كنا صغارا تنقصنا التجربة في دروب الحياة، ولا تحركنا ما يسمى بنزعة المصالح. هذا الصديق هو الآخر يقيم في برشلونة منذ خمسة وثلاثين سنة، افترقت بنا السبل حين هاجرت إلى لندن، فاختار هو وجهة برشلونة.
ما يثير دهشتي حقا هو كلما التقينا في مدينتنا خلال العطل الصيفية، لا يفتأ يرحب بي، ويحثني على زيارته بكاتالونيا لصلة الرحم، واسترداد لذة الماضي، والحديث عن زمن جميل لم تطله الألوان والمساحيق.
قبل مجيئي إلى برشلونة أشعرته بتاريخ قدومي ووجهت له دعوة لحضور حفل توقيع كتابي. رحب بالفكرة وتفاعل معي بشكل لافت. حين وصلت سان بوي، ركبت رقمه على شاشة هاتفي وحاولت الاتصال به مرة لكن لم يجب. في المرة الثانية هاتفته فأقفل الخط في وجهي، ضاع صوتي في صحراء التيه. بعدها أرسلت له رسالة شفهية، وأخرى كتابية لكن دون رد. صرخت بأعلى صوتي: اللعنة اللعنة!
انتابني حزن وإحباط شديدين، وقلت في نفسي:
لقد تخلى عني صديقي من دون سبب يذكر. أصبحت مقتنعا أن الأصدقاء ينقسمون إلى صنفين: عارفون ومغفلون، انتهازيون وطيبون. هناك "الأذكياء" وهناك "الناس" على حد تعبير الكاتب بودومة.
"الأذكياء" يكذبون ويغلبون المصالح، و"الناس" يصدقون القول ويغلبون العواطف. منذ عهد قريب كنت أحسب نفسي أنتمي إلى صف "الناس"، لذا قررت اليوم أن أنتقل إلى صف "الأذكياء".
جلست وحيدا فوق كنبة بشارع الرامبلا أتأمل في صمت عميق. أعيد اكتشاف ذاتي، وأحصي حصاد تجربتي على أمل معرفة من هم أصدقائي. فكرت طويلا وقلت لعل مصطفى من صنف "الناس"، وحسن من صنف "الأذكياء". لا أدري! لكن كلاهما صديقي!
لذا علي أن أحسم أمري، وأحدد ابتداء من اليوم إلى أي صنف سأدين بالانتماء. لا أريد أن أكون من "الناس" كي لا أبدو ساذجا، كما لا أرغب أن أكون من "الأذكياء" كي لا أصير خسيسا.
انتهيت إلى فكرة مهمة ومتوازنة، ألا وهي الانتماء إلى فصيل بين المنزلتين. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فصيل ثالث لا زلت أبحث عن تعريفه وتسميته إلى يومنا هذا... يتبع