أولا، على مستوى التركيبة، يبدو أن المعارضة ليست كتلة متراصة، بل مجموعة مشتتة ومفككة في شكل تيارات وتوجهات متعارضة ومتضاربة الأهداف والغايات، فالمعارضة ليست جسما واحدا، بل هي معارضات، والتفكك بين مكوناتها واضح في السر والعلن، بل أخطر من ذلك، هناك من أعلن المساندة النقدية للحكومة، فلا هو مع المعارضة ولا هو مع الأغلبية. وبالتالي فالانسجام غير موجود بين مكونات المعارضة، ولكن كان يفترض أن يقع التنسيق بين مكوناتها بحكم الواقع، وهذا الأمر لم يتحقق.
ثانيا، هناك مشكلة حقيقية في طريقة اشتغال أجنحة مجلس النواب، والدليل على ذلك المؤشرات التالية:
المؤشر الأول، يتعلق بمضمون ومخرجات الجلسات الشهرية المتعلقة بأسئلة السياسة العامة، ولنأخذ كمثال التبرير الذي قدم لعدم حضور رئيس الحكومة إحدى الجلسات الشهرية المتعلقة بأسئلة السياسة العامة، التي يجيب عنها رئيس الحكومة حسب الفصل 100 من الدستور، فعدم الحضور كان بحجة أن السؤال لا يندرج ضمن أسئلة السياسة العامة التي يجيب عنها رئيس الحكومة. هذا يعني أن هناك صعوبة في فهم وهضم مكونات مجلس النواب لاختصاصاتها وحدودها. لكن حتى إذا اعتبرنا أن الجهة صاحبة السؤال انزلقت في هذه النقطة، كان يمكن تدارك الأمر وتصحيحه لو كان هناك تفاهم بين مكونات مجلس النواب.
المؤشر الثاني، يتعلق بأسلوب المعارضة في انتقاد طريقة تدبير الحكومة للشأن العام، المعارضة تقول أن الحكومة "تنقصها التجربة"، وهذا انتقاد ضعيف سياسيا، وفي غير محله، ولا يغري المواطن، لسبب بسيط، هو أن المهم عند المواطن هو توضيح عيوب واختلالات الحكومة في إدارة الشأن ودفعها إلى خدمته ولا يهمه عنصر التجربة، فحضور التجربة لا يعني بالضرورة ضمان الأداء الجيد، كما أن غيابها لا يعني اتوماتيكيا الفشل في التدبير. فعنصر التجربة غير حاسم. وبالتالي هناك محدودية في تتبع ورصد المعارضة لهفوات الحكومة.
ثالثا، إن تحليل طريقة اشتغال أحزاب الأغلبية الحكومية داخل مجلس النواب وتتبع سلوكها السياسي وأسلوب تفاعلها مع الحكومة على مدار سنة، تبين أن أحزاب الأغلبية فقدت هويتها كأغلبية برلمانية تنتمي إلى السلطة التشريعية، وانصهرت وذابت بشكل غريب داخل الحكومة وكأنها جزء من الحكومة ومكون من مكونات السلطة التنفيذية، فالأغلبية نسيت أو تناست أنها سلطة تشريعية ومكون من مكونات البرلمان يتعين عليها أن تضطلع باختصاصاتها سواء على مستوى التشريع، مراقبة العمل الحكومي، تقييم السياسات العمومية والديبلوماسية البرلمانية. وعوض القيام بهذه الوظائف تحولت إلى جبهة للدفاع والترافع عن أداء الحكومة وتسويق عملها بسلبياته وايجابياته. صحيح أن الأغلبية بايعت الحكومة أثناء التصويت على البرنامج الحكومي وعليها مساندتها في الأمور التي تحتاج إلى مساندة، ولكن ليست الطاعة المطلقة في كل شيء، والتي تجعلها تفقد وتنسلخ عن هويتها البرلمانية بشكل مخيف، لأن هذا السلوك السياسي للأغلبية، يخالف التجارب الدستورية الأجنبية، حيث تكون الأغلبية داخل البرلمان بالمرصاد للحكومة، وتمتلك الحس النقدي في القضايا التي تحتاج إلى انتقاد وليس المدح والمساندة في كل شيء مصدره الحكومة، إلى درجة تجعل المجتمع يشعر وكأن مجلس النواب يتكون من جناح واحد هو المعارضة التي هي أصلا ممزقة.
رابعا، يبدو أن الضعف العددي لمكونات المعارضة يشكل خطرا على الدستور، بحيث جعل من المستحيل ويتعذر على المعارضة تفعيل بعض اختصاصاتها التي تحتاج إلى نصاب قانوني غير النصاب المتوفر عليها الآن، من قبيل تشكيل لجن تقصي الحقائق، وطلب عقد دورة استثنائية، وأجرأة ملتمس الرقابة حتى النهاية.. وبالتالي فجزء مهم من مقتضيات وأحكام الوثيقة الدستورية في الشق المتعلق باختصاصات المعارضة في حالة جمود، وهذا فيه خطر على الدستور.
خامسا، أن القوة العددية للأغلبية الحكومية المشكلة من ثلاثة أحزاب خلقت لها الشعور بأنها في حصانة منيعة من ضربات المعارضة، وكان ينظر إليها في بداية تشكيل الحكومة على أنها نقطة قوة تساعد على انسجام الأغلبية وجعلها في وضع مريح، وفي نفس الوقت كبرت معها الانتظارات والطموحات بشكل جعلت أنظار المجتمع تتجه وتركز على الحكومة، لكن هذه القوة العددية تحولت مع مرور الوقت وتطور المطالب وتفاقم المشاكل الاجتماعية إلى نقطة ضعف، بحيث أن الضغط المجتمعي كله منصب على الحكومة.
سادسا، أبانت سنة من العمل عن غياب المرونة في العلاقة بين الأغلبية والمعارضة داخل مجلس النواب، هذا الغياب أثر على التعاون بينهما وحل محله التنافر والصراع الذي يجعل أحدهما يبحث عن الانتصار على الآخر، الشيء أضعفهما معا وضعفت معهما صورة البرلمان في تمثلات المجتمع.
انطلاقا مما سبق، يبدو أنه من الصعب جدا الذهاب إلى الدورة الخريفية التي تفصلنا عنها أيام قليلة، وانتظار أن تكون مخرجاتها في مستوى التطلعات إذا لم تتدارك الأغلبية والمعارضة العيوب والمشاكل التي تشوب العلاقة بينهما. فالأغلبية والمعارضة التي توجد بينهما فجوة عددية كبيرة تجعل المعارضة شبه مشلولة والأغلبية في حالة انقياد تام وطاعة مطلقة للحكومة إلى درجة الانصهار والإحساس بأنها جزء من الحكومة تكون لها تداعيات على الدولة والمؤسسات بشكل عام، عكس الحالة التي تكون لا تفصل بينهما فجوة عددية كبيرة، فتتحولان إلى قوتان متقاربتان تتعاونان وتتفاهمان بشكل يظهر البرلمان بمظهر قوي. لذلك قد يبدو سيناريو التعديل الحكومي أحيانا ضرورة بصرف النظر عن الانسجام الحكومي من عدمه، لأن خروج أحد أحزاب الأغلبية إلى المعارضة مقابل التحاق الأحزاب التي تجد صعوبة في تموقعها في المعارضة بالأغلبية، من شأنه تحقيق ثلاثة أهداف أساسية تحتاجها الدولة ومؤسساتها في لحظات مفصلية من حياتها، الهدف الأول، تحقيق التوازنات بالنسبة للدولة وتحريك بعض مقتضيات الدستور التي هي في حالة سكون، الهدف الثاني هو التنفيس عن الحكومة بعد أن تحولت قوتها العددية الكبيرة إلى نقطة ضعف، والهدف الثالث، هو زرع الروح والدينامية في عمل المعارضة البرلمانية وإعادة التوازن بين جناحي البرلمان، وبين التشريعي والتنفيذي، وهذا من شأنه أن يعطي قوة جديدة للبرلمان والحكومة وعملهما.