مول الزريعة.. أسرار مهنة توارثها أهالي طاطا: يعدون حاملي شرف هذه الخدمة لكافة المغاربة

مول الزريعة.. أسرار مهنة توارثها أهالي طاطا: يعدون حاملي شرف هذه الخدمة لكافة المغاربة

وإن أصبح يبيع كل شيء من سلع «المكَرمل» و«السخون» و«المثلج»، فضلا عن تقديم خدمات همت عروض تعبئات الهاتف النقال وبطاقات ألعاب الحظ لـ«حك واربح»، إلا أنه مازال يحتفظ بالتسمية الذائعة الصيت «مول الزريعة»، شاهرا إياها سلاحا أمام عاديات الزمان، وعلامة مميزة على أرض معركة الصراع من أجل البقاء في ظل غياب أي حماية قانونية أو تغطية صحية.

 

المهدي غزال

 

لا تجد شارعا أو دربا أو حتى زقاقا يخلو من أحد حوانيته التي يميز واجهتها برميل بداخله قارورة غاز وتعلوه مقلاة في إشارة إعلانية إلى «إنني هنا». لكن وقبل الحديث عن مدى استحقاق هذا الرجل وحرفته لدراسة انتروبولوجية واقتصادية من ذوي الاختصاص، يثار التساؤل حول ما إذا فكر زبون عادي وهو ينقر تلك الواجهة الزجاجية بقطعته النقدية في سر احتكار هذه الحرفة من قبل أصحاب البشرة السمراء، ولماذا لم يعرفوا بـ«مول الحمص» أو «الكاوكاو» أو «البيستاش» أو «الخروب» أو «النبكَ» على الرغم من دخول جميع هذه المكسرات في قائمة مواد تجارتهم؟ ثم أي دور تعليمي لعبه الرجل من خلال تثقيف أجيال أدمنت في وقت من الأوقات على كراء قصص «هيركيل» و«زومبلا» وروايات «أكاطا كريستي» التي شكلت إلى جانب مثيلاتها «عبير» و«الموعد» صلة وصل بين الشباب المراهق وحامي معبد عشق ميولهم سنوات السبعينات والثمانينات.

 

 

براءة اختراع «مول الزريعة» التي سطا عليها «موروكو مول»

بقامته الفارعة ووجهه البشوش المحيل على أصول صحراوية، يقف سالم، البالغ 49 سنة، وهو منهمك في تلبية رغبات الزبناء التي تتوزع بين طلبات الفواكه الجافة و«روشارج» الهاتف ومشتقات الحليب، بالإضافة إلى سجائر «الديطاي». ومن غير أدنى تردد وجَّه كامل اهتمامه لـ«الوطن الآن» بمجرد أن تعرَّف على هويتها في كشف لرغبة دفينة من أجل توضيح أمور لطالما غابت عن الناس، أو اعتقدوا بشأنها أفكارا مغلوطة. وعلى هذا الأساس بادر إلى القول بأن «هاد الحرفة ديالنا على عكس ما يشاع بين المواطنين، ماكنتسناوش منها شي رباح كثير بقدر ماهي إرث بقا فوق أعناقنا وأمانة فكتافنا لخدمة الناس وتمكينهم من شي حوايج يستحيل يلقاوها فشي بلاصة أخرى»، مستدلا بهامش العائد الذي من الممكن أن يجنيه ممن يشتري مثلا «10 زريعة أو حمص» أو «فانيدة» بـ«جوج دريال»، في مقابل أن «البرَكة» وحدها هي ما يبقي هذه المهنة على قيد الحياة. أما في ما يخص خلفية الإصرار على التشبث بها رغم ضغط الإكراهات، فيحصرها سالم في الامتثال لما أسماه «عُرف تكَلايت» الذي تحول إلى مسؤولية على عاتق أبناء مدينة طاطا كحاملي شرف هذه الخدمة لكافة المغاربة، بل هم ملهمو كبار مستثمري اليوم الذين لم يجدوا حرجا في استغلال ماركتهم المسجلة «مُول» ليروج بها مثلا مشروع من حجم «موروكو مول»، يقول سالم بروح مرحة.

 

 

رحلة الانتقال من القفة والكرياج إلى واجهة الزجاج

وأرجع المتحدث أسباب التسمية المرتبطة بالزريعة دون غيرها مما يعرض بالمحل إلى أحداث لما قبل عشرات السنين، وخصوصا أيام الحماية الفرنسية التي كان تشتهر أثناءها زريعة غير تلك التي تسود اليوم. الأمر يتعلق، يفيد سالم، بزريعة «باباغيو» الكبيرة الحجم وذات الخطوط السوداء التي كان يمتهن بيعها اليهود المغاربة. ومن ثمة، انتقل الاختصاص إلى الطاطويين الذين أضافوا لمستهم التي مازالت معروفة إلى الآن وتحمل اسمهم بدون منازع، حيث ارتأوا في البداية «وضع مختلف أنواع الزريعة من الكحلة إلى زريعة الكَرعة المتداولة باسم الزريعة البيضا إلى زريعة الدلاح الشهيرة بالزريعة القاصحة إلى الحمص واللوز والكاوكاو. ووضعها كما قلت في قفة والتجول بها على الناس في الشوارع والمحلات»، مستدركا أن هذه الطريقة «الماركوتينية» سرعان ما فطن أهلها إلى ضرورة استبدالها بمحلات قارة تجلب الزبون لها بدل الانتقال إليه. وهي المرحلة التي واكبها إدخال تعديلات جوهرية، سواء على نطاق واجهات السياج التي تحولت إلى تلك المصنوعة بالزجاج، أو على صعيد مضامين النشاط التي شملت منتوجات إضافية ولا علاقة لها أحيانا بالفواكه الجافة من قبيل السجائر بالتقسيط وألعاب الأطفال ومشتقات الحليب وتعبئات الهواتف وألعاب الرهان، إلى درجة أن أحد الشباب ومن فرط استغرابه لما يبيعه سالم، سأله مازحا «واش عندك البوطات؟»

 

 

وابكري خلصنا الكراء والضو والضريبة إذا عولنا على الزريعة وحدها

وبعد أن تركنا سالم بمنطقة سباتة على حدود فكرته الأخيرة، نقلنا صداها إلى زميل له بأحد دروب الحي المحمدي بالدار البيضاء، ليبرر ذلك التنوع في المواد المعروضة بمجموعة من الضغوطات والالتزامات أيضا، عدَّدها في «وابكري خلصنا الكراء والضو والضريبة والسلعة اللي كتزاد كل نهار إذا عولنا على بيع الزريعة وحدها. بعدا هادشي اللي كنديرو معاها كيعاون شوية واخا يالاه كنجيبو التعادل». ومن جهة ثانية أقحم بلعيد، البالغ 56 سنة، الهاجس الخدماتي المسؤول كدافع رئيسي لتوجه معشر مهنته. إذ اعتبر تواجدهم، غالبا، في قلب الأحياء الشعبية يضعهم أمام إلزامية التفكير في ظروف ساكنتها الفقيرة، وبالتالي تمكينها من أهم ما يمكن أن تحتاجه في لحظة واحدة عوض الاضطرار إلى التنقل بين هذا الدكان وذاك، علما أن «مالين الزريعة»، يشدد بلعيد، معروفون بطباعهم الطيبة والتساهل في التعامل مع شعار معظم التجار «ممنوع الطلق والرزق على الله». وخير برهان على «تامعقوليت هاد الناس»، يستشهد، هو الثقة التي يضعها فيهم أصحاب الشركات التي تمنحهم ثلاجاتها وسلعها باطمئنان بالغ، خاصة وأن هؤلاء الممولين، كما في سائر البقاع لا يعترفون سوى بـ«الكْلمة والدرهم». لذلك، فإن أهل طاطا وما يجاورها «كايجبدو على أصلهم اللي كيبان في احتكارهم لهذه المهنة عن جدارة وليس تطفلا».

 

 

من دفاتر تلاميذ الحي يعرف من سيصبح طبيبا ومن ينجح بالأقدمية

وفي ما اعترض البعض ممن التقتهم «الوطن الآن» على المعلومة القائلة بأن الزريعة هو اللقب الذي لازم المهنة منذ أوائل اكتساحها، بحجة أن «تافوالت» هو الإسم الأصلي.. وبينما ربط البعض الآخر اقتران بيع الزريعة بساكنة طاطا وتالوين وتنغير وكلميم انطلاقا من حرص هؤلاء على إنقاذ بني جلدتهم من عوز الحاجة، ومن ثمة توريثهم أصول الحرفة تعويضا عن جفاء ثمار الواحات، لفت الحاج محماد، البالغ 64 سنة، إلى الدور الذي لا يجب أن تغفله أجيال الستينات والسبعينات والثمانينات في تثقيفها بعد أن ظل لعقود مصدر ملء خوائها المعرفي، وكيف كانت طوابير الشباب تتهافت على استبدال قصص المغامرات البوليسية ومجلات «العربي»، في حين تواضب الفتيات على كراء المجلة الفنية «الشبكة» و«الموعد» وقصص «عبير». والأهم من هذا، يستطرد الحاج محماد، كان مول الزريعة العارف بمستوى تلاميذ الحي أكثر من أولياء أمورهم عن طريق تصفحه لدفاترهم التي يبيعونها له بـ«الكيلو» نهاية كل سنة دراسية. ومن خلال تقييمه لمحتواها إن كان يهم علامات التنقيط أو درجة الخط، أو حتى عدد التغيبات التي يستخلصها من تواريخ الدروس، يتخذ مبادرة توجيه المعلومة للآباء على أمل التأكد من مدى فعل ملاحظته لفعلتها ختام السنة الموالية. ومن ثمة، يكون على علم مسبق بمن سيصبح طبيبا ومن سيحترف حمل «البالة والفاس».