الدحمني: همسة في أذن زميلي الأستاذ الجديد..

الدحمني: همسة في أذن زميلي الأستاذ الجديد.. عبد القادر الدحمني
اِعلم أولا أن الوطن يمشي بالمقلوب، فما قرأتَه من بيداغوجيا وعلوم الديداكتيك، إن كنت قد فعلت، سيقف عاجزا كل العجر عن استيعاب ما ستجده في الواقع المزري، ستصدمك ظواهر تفوق تقارير الوزارة المعنية، وتوصيات الأساتذة المكوِّنين، ذلك أن الجميع ينسون، وهم بصدد الحديث عن العملية التعليمية والتربوية، الحديث عن السياق، السياق القاهر الجارف، السياق الذي يفوق كل ما تسلَّحتَ به من استعداد وما تعبأت به من معارف ومهارات، السياق الذي أنتجته سياسات متخبّطة متعاقبة بنيوية.
لا أسعى بهذا إلى إخافتك أو تيئيسك، لكنه أمر ضروري لتكون على بيّنة مما ستجده..
ستجد في تعليمنا الابتدائي قافلة تضم أربع مستويات أو أكثر، وسيُطلبُ منك أن تسوقها بِلُغَتَين، وعشرات الصفحات من الجذاذات المرصودة يوميّا ترقّبا لزيارة تفتيشٍ وَرَّاقٍ في الغالب.
ستجد أطفالا كسحتهم وطوّحت بهم إلى مستويات أعلى، سياسة تغييب عَتَبَة النجاح لسنوات، كي نثبت للبنك الدولي أننا كافحنا الهدر المدرسي، وأن نسبتنا من التغطية المدرسية بلغت كذا وكذا من عدد الأطفال البالغين سن التمدرس، وستجدهم، تبعا لذلك، قد قفزوا بفعل اكتظاظ المقررات، وعدم تلاؤم الكثير من البرامج لمعطيات الواقع والسياق والمحيط، إلى مستويات أعلى دون أن يُحْكِمُوا الكثير من أساسيات وكفايات المستويات الدنيا، وستضطر لمتابعة شريط الكذب المرير، كيلا تتحمل وِزْرَ الانهيار وحدك، كان الله في عونِك.
ستجد طرقا بعيدة غير معبّدة، تؤدي إلى مؤسسات تفتقد إلى أبسط ضروريات الحياة، بله الاستقرار وإنجاح "مدرسة الجودة"، حيث لا مراحيض تستر حاجتك البيولوجية الضاغطة، ولا ماءَ هناك في المتناول، ولا سُورَ يُسَوِّرُ الحَدَّ الأدنى من كرامتك وكرامة مؤسَّستك، فلا تعجب إن كنتَ مضطرا لطرد الحيوانات من بعض الأقسام كي يدخل التلاميذ، أو كنس بقايا ليل بلوى الشباب، وفتح النوافذ المشروخة، ليدخل هواءٌ يليق بصباح التربية، أما الباب فلا تسل عنه دائما، فلم يعد ضروريا في بعض الأقسام المُتعبة المُنتَهَكة..
ستجد -بعد لَأْيٍ- سَكَنًا تكتريه قرب فرعيات معزولة، حيث لا إشارة إنترنيت إلا في قمة جبل أو تجويفة غابة، لا عليك، أعرف أنك مستعدّ لتحمّل قطع عشرات الكيلومترات يوميا كي تتنقل بين عشّك العائلي الصغير وبين مقرِّ لقمة العيش. أعرف أن ذلك ينهكك، ويحطّ من قدرك وأنت تضطر للتربّص كل يوم كي يتوقّف أحدهم، ويتكرّم "بحملك" إلى وجهتك.
ستجد مقررات حاولوا حشوها بكل شيء، وكرروا فيها كل شيء، فغدت كَمًّا مرهِقا للأستاذ والتلميذ، واعتمدت تنميطا قبليًّا قاتلا للاستعدادات والذكاءات، فلا تنزعج أبدا، كن هادئًا وحافظ على أعصابك فنحن نحتاجك لمدة طويلة حفظنا الله فيك. صحيح، عليك أن تبذل وُسعَك، وتسددّ وتقارب، وتشتغل بذكاء وقصدية وتكامل، لكن الأهم: أن تحافظ أيضا على نفسية المتعلمين، وارتفاع معنوياتهم، بل تزيد بواعثهم إيقاظا وإراداتهم تحفُّزا.
وفي المقابل، لستَ بِدعا من الناس أبدا، ألست ترى إلى منظمات إنسانية دولية تشتغل في أدغال إفريقيا، ويقيم أفرادها لسنوات بين أناس يختلفون عنهم في العرق والدين والثقافة، ألستَ أحقّ بالصبر منهم وأنت تشتغل مع أبناء بلدك، وتزرع فسائل المستقبل في ربوع وطنك؟!
فليكن طمعُك في ثواب الله تعالى وأجرِه، أجزلَ جزاءٍ تنتظرُهُ من عملك وصبرك واجتهادك، وليكن إسهامُك في بناء هذا البلد، بذورَ علمٍ وخيرٍ وأخلاقٍ تغرسُها بمحبّة في القلوب والعقول، ولا تنس أنّك بسلوكك وأخلاقك وجدّيتك ووعيك، تؤسس، إضافة إلى الأرضية التربوية والعلمية اللازمة للمستقبل، أرضيةً نفسيةً ووجدانيةً واجتماعيةً، يُبنى على أساسها البلد، فليكن العدل والشورى والنزاهة والإنصاف والمساواة والاحترام وتدبير الاختلاف.. قِيَمًا لها اهميتها القُصوى في التربية والتعليم، فإنك تشارك في صناعة جيل الحرية أو جيل الخُضُوع، فانتبه رعاكَ الله..
وليكن زادُك في هذا، علمًا تجتهد في تحصيله، ودراسةً تسعى لاستكمالها، غير مكتفٍ أو نافِرٍ، ولا يائسٍ أو مُتَخَلٍّ. 
وليكن أنيسُك الكتاب، وزادُك الأمل، وأُفُقُك أوسع من مسارٍ أوحد، فربما يكون التعليم مجرّد درب متعرّج صغير في شارعك الشاسع الطويل.