يونس التايب: حدودنا الوطنية...بين مطالبنا المشروعة وهواجس الجيران

يونس التايب: حدودنا الوطنية...بين مطالبنا المشروعة وهواجس الجيران يونس التايب
تعتبر المملكة المغربية ثاني أقدم مملكة في العالم. ذلك ما أعاد التأكيد عليه موقع أمريكي كبير يهتم بالتاريخ، نشر خرائط توضح تمدد جغرافية الدولة المغربية عبر القرون.
ومن دون شك، أن المعطيات بهذا الشأن ثابتة وعليها آلاف المستندات في أرشيف الديبلوماسية الإسبانية والفرنسية والبريطانية والروسية والألمانية والإيطالية والبرتغالية والأمريكية والصينية. كما أن هنالك من المراجع والمستندات التاريخية، الموجودة في مكتبات المعاهد والجامعات الكبرى عبر العالم، ما يكفي لمن أراد تعميق معرفته بجغرافيا وتاريخ الأمة المغربية.
ودون حاجة للعودة إلى تاريخ 4000 سنة مضت، تبين المعطيات التاريخية لمرحلة ما بعد الفتح الإسلامي كيف أن منطقة شمال إفريقيا ظلت مقسمة بين الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية في الشرق، وبين الخلافة المرابطية والموحدية والمرينية والسعدية والعلوية في المغرب. ومنطقة الجزائر لم تخرج عن هذا الإطار، حيث ظلت جزءا من تراب الدولة المغربية لمدة 5 قرون، خلال حكم المرابطين والموحدين والمرينيين، بين سنوات 1060 و1465.
وفي فترة حكم السعديين، تمددت الخلافة العثمانية من جهة الشرق إلى حدود تلمسان، حيث أوقفها المجاهدون المغاربة بعد هزمهم لجيوش إسطنبول في معركة واد اللبن الشهيرة، لتصبح منطقة الجزائر تابعة للعثمانيين لمدة تقارب 400 سنة، إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي وتفاوض مع ممثلي الإيالة العثمانية ليخلوا السبيل بأقل الخسائر الممكنة. حينها أصبحت الجزائر مقاطعة فرنسية، وظلت كذلك لمدة 132 سنة.
هذه الحقيقة التاريخية ثابتة ويعرفها العالم كله، وقد سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن تحدث عن ذلك قبل أشهر، متسائلا باستنكار: "هل كان هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟". ليجيب أنه "كان هناك استعمار قبل الاستعمار الفرنسي" للجزائر، في إشارة لفترة التواجد العثماني بين عامي 1514 و1830م. وأضاف: "أنا مفتون برؤية قدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماما الدور الذي لعبته في الجزائر، والهيمنة التي مارستها، وشرح أن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون، وهو أمر يصدقه الجزائريون".
طبعا، لم يشر الرئيس ماكرون لمرحلة ما قبل تواجد العثمانيين في الجزائر، لأنها لم تكن فترة استعمار، بل كانت مرحلة تعتبر فيها منطقة الجزائر جزءا أصيلا من الإمبراطورية المغربية، وحال سكانها كحال سكان شنقيط وسكان شمال مالي وسكان طنجة والرشيدية والعيون وغيرها من مناطق وجهات المغرب.
بالنسبة إلينا كمغاربة، كما الحال بالنسبة للأتراك، لا يمكن إلا أن ننظر إلى المراحل التاريخية البعيدة لأمتنا، باعتزاز كبير نظرا لما تعكسه من مجد تليد وملاحم العزة والنصر دفاعا عن البلاد والعباد. ولا يمكن إلا أن نأسف لكون ذلك التاريخ يشكل مصدر قلق كبير وعامل إحباط نفسي لجيراننا الذين عجزوا عن التعاطي معه كما هو، دون عقد نفسية تفسد عليهم حاضرهم وتدفعهم إلى حالة اكتئاب جماعي لاشعوري تحت وطأة إحساس بنقص حضاري يدفعهم لمعاداة أنفسهم وظلم بعضهم البعض، والإساءة إلى محيطهم الجيوسياسي وظلم أهله.
قد أتفهم أن قوة معطيات التاريخ المغربي الذي يقاس بالقرون، قد تكون أكبر من أن تستوعبها عقول اكتشفت الجغرافيا قبل 60 سنة فقط. لكن، ماذا عسانا نفعل لتهوين الأمر على المتضررين من حقائق التاريخ؟ لا شيء، لأن الأمر يتجاونا، ولا يمكن العودة 4000 سنة إلى الوراء لتغيير ما جرى. تماما كما لا يمكننا أن نغير ما هو موثق حول ديناميكية التحرر التي أفرزت ثورة الملك والشعب من أجل استقلال المملكة المغربية في الخمسينات، وأفرزت حرب التحرير الوطني التي أسقطت الوضع الإداري للجزائر كمقاطعة فرنسية، بعد استفتاء شعبي قرره الرئيس شارل دوكول، ونشأت في أعقابه الجمهورية الجزائرية في بداية ستينيات القرن الماضي.
وإذا كان صحيحا أنني لا أعيب على جيراننا أنهم عجزوا عن تقبل حقيقة أن أجدادهم كانوا تحت حكم امبراطوريات مختلفة لقرون، إلا أنني أعيب عليهم أنهم تركوا هذه العقدة الحضارية تنسيهم أنهم كانوا إلى جانب باقي سكان باقي ولايات الإمبراطورية المغربية، إخوة في الدين والانتماء، عرضهم من عرضنا، دماءهم محرمة مصانة كدمائنا، علماءنا علماءهم وفقهاءهم فقهاءنا، وبيننا بيع وشراء وتجارة وفلاحة ومصاهرات، وفي أعناق الجميع بيعة لسلاطين المغرب في فاس ومراكش والرباط.
وللأسف الشديد، حتى بعد أن وهب الله لجيراننا نعمة البترول والغاز، لم تتغير نظرتهم لأنفسهم و لم يساعدهم ذلك على رفع هممهم و تسجيل حضور جيوستراتيجي مهم في الزمن الحالي، كان المفروض أن يعوض نقص الثقة و يساعدهم على قبول حقائق التاريخ كما هي لأنها إرث مشترك لنا جميعا، و لا حاجة إلى تزويره أو افتراء محطات خيالية لم يعشها أحد، كما سمعنا ذلك، قبل أزيد من سنة، من فخامة رئيس الجمهورية الجزائرية وهو يقول أن متحف المجاهد في العاصمة الجزائرية يتحوي على "مسدسات قديمة كان قد أهداها الرئيس جورج واشنطن إلى الأمير عبد القادر الجزائري"، والعالم يعرف أن الأمير عبد القادر، رحمة الله عليه، لم يكن قد وُلد عند وفاة الرئيس جورج واشنطن في 14 دجنبر 1799، بل ولد حتى شتنبر 1808.
أتمنى أن يستوعب جيراننا أنه لا أحد يلام لأن تاريخه الوطني انطلق على يد مستعمر غاشم أفسد الواقع الجغرافي الذي وجده في شمال إفريقيا، واعتدى على أمة عمرها بالقرون، وتطاول على رموزها ونكل برجالاتها معتمدا على قوته العسكرية الغاشمة ومنظومته الأخلاقية الفاسدة التي تبيح له قتل الشعوب وسرقة ثرواتها. كما أتمنى أن يستوعب الجيران أن المملكة المغربية، منذ الاستقلال، لم تسع إلى تصحيح كل الأخطاء التي ارتكبها الاستعمار، بل ركزت نضالها التحرري، سياسيا وديبلوماسيا وعسكريا، على استرجاع أراضي المغرب من طنجة إلى لكويرة، عبر مراحل وفي حدود ما يمكن تصحيحه من كوارث استعمارية.
وهنا، لابد من الإشارة إلى أن بلادنا سلكت تلك الطريق لوعيها بأن الأخطاء الاستعمارية لم تستهدف المغرب وحده، بل همت دولا ومجتمعات في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وأنه في ظل منظومة العلاقات الدولية التي تشكلت بقرار من الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، تم ترسيم حدود كل دولة وطنية Etat Nation على الشكل القائم، وترسخ بذلك مسخ جغرافي فرضته مصالح قوى الاستعمار وإرادتها في استدامة بؤر صراع بين الدول التي استقلت عنها.
وفي القارات الثلاث، لا توجد دولة كبرى كانت قائمة قبل الحرب العالمية الأولى، لم تشملها أخطاء المستعمرين، ولا يمكن لأي منها أن تعيد عقارب الساعة قرونا إلى الوراء. لذلك، تظل التوترات قائمة بين دول كثيرة ترى حدودها التاريخية في مستويات أبعد بكثير مما تراه الأمم المتحدة والقوى الدولية المسيطرة حاليا.
وبناء على ذلك، تشكل شبه إجماع دولي على أن الحكمة تقتضي احترام القانون الدولي، والتركيز على شروط استقرار دائم يحترم السيادة الوطنية للدول القائمة، ويمنع حركات الانفصال والإرهاب والتخريب، ويحقق السلام الدائم بين الشعوب.
وفي هذا السياق، بالنسبة للمملكة المغربية، الموقف واضح: رسميا نحن لا نريد السير إلى أبعد من الحدود القائمة حاليا، ومطالبنا المشروعة هي احترام سيادة الدولة المغربية على كامل التراب الوطني، ووقف جرائم اعتداء المرتزقة الانفصاليين على أراضينا في الصحراء المغربية، بتمويل من دولة جار.
وبموازاة ذلك، نجتهد للمحافظة على تميز النموذج الحضاري المغربي عبر تقوية البناء المؤسساتي والديمقراطي في بلادنا، وتعزيز المشاركة المواطنة، وترسيخ حماية حقوق الإنسان، وتشجيع الاعتدال والانفتاح الثقافي، وتطوير حكامة الشأن العام، ورصد الإمكانيات لمحاربة الفقر والتخلف ومحو الأمية وجلب المنافع الاقتصادية للناس، وإبرام شراكات مع كل من يقدر بلادنا ويقف مع مشروعية قضاياها.
فهل هذه الطموحات المشروعة والآمال الراقية، أكبر من قدرة جيراننا على فهمها والانخراط فيها؟ وكم يلزم تضييعه من سنوات قبل أن يتوقف أعداء المغرب عن حربهم الظالمة ضده؟ أليس بين القوم حكماء يستوعبون أن قضاء 47 سنة في دعم عصابة البوليساريو الانفصالية، أي 75% من عمر الدولة الجزائرية، يشكل مصيبة ليس في العالم نظام اقترف مثلها، إذ لا يمكن لعقل سوي إضاعة ثلثي عمر دولة في التحريض ضد دولة جار لا تطالب سوى باحترام وحدتها الترابية و سيادتها الكاملة على أراضيها ؟
يبقى الأمل قائما بأن يتبلور أفق لنسير في طريق الأخوة وحسن الجوار، وتظهر صحوة ضمير جزائري تخرج المنطقة من دائرة الإضرار بمصالح الشعبين الشقيقين. في اعتقادي، ذلك أفيد بكثير من الخوض في التاريخ بمنطق مغلوط، و استنفار أجهزة دولة بأكملها، بأحزابها و مؤسساتها و جيشها و شيوخها و إعلامها، ضد مواطن مغربي سرد بعض الحقائق التاريخية بعفوية و تلقائية لم تستحضر حساسية و دقة السياق، و لم تبرز بوضوح أن ما كان من وضع مغربي إمبراطوري مغربي في أزمنة مضت، يختلف عن ما تريده بلادنا في الأزمنة الحاضرة و للمستقبل، من علاقات تعاون و تنسيق و احترام لسيادة كل دولة في المنطقة، و تكامل اقتصادي جهوي شامل لدول المغرب الكبير، لجلب النماء وتعويض شعوب المنطقة عن مآسي ديبلوماسية التحريض وتمويل عصابات الانفصال التي ظلم المغرب بسببها ظلما شديدا، وتم تدنيس التاريخ المشترك والإساءة لذكرى أرواح المجاهدين، وما عاقبة الظلم إلا سوء مطلق نخشى أن يصيب الظالمين، مصداقا لقوله تعالى : "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ" (صدق الله العظيم).