بمناسبة اليوم الوطني للمهاجر الذي يحتفل به في العاشر من غشت من كل سنة، التقت "أنفاس بريس"، لحسن بدري- من تارودانت مستشار جماعي سابق، خاصل على دكتوراه في الجهوية الموسعة والتنمية الترابية. فاعل في مجال التعاون اللامركزي ومن الجالية المغربية بفرنسا وأجرت معه الحوار التالي:
بصفتك واحدا من أبناء الجالية المغربية بالخارج ما هو تقييمك لظروف الاستقبال هذه السنة؟
في البداية نحمد الله على الانفراج الذي حصل مؤخرا بعد جائحة كورونا. كما تعلم فالجالية تضررت كثيرا من مسألة إغلاق الحدود، لكن على كل حال نحن أمام قوة قاهرة وهناك مجهودات بذلت من طرف الدول ووجب احترام كل التدابير والتي لم تخص المغرب فقط وإنما كل دول العالم. وبعد سنتين من إغلاق الأجواء، من المفروض ان نشهد عودة كثيفة لأبناء الجالية وخصوصا بعد عودة النقل البحري مع الجارة اسبانيا ،وهذا ما يجعل من هذه السنة استثناء. ورغم ذلك فظروف الاستقبال كما العادة تمر في ظروف جيدة والوسائل اللوجيستية من مطارات وموانيء متوفرة وبجودة عالية وكذا تجربة كل الفاعلين بما في ذلك مؤسسة محمد الخامس للتضامن وتجنيد الجميع لإنجاح عمليات العبور في إطار عملية مرحبا التي يوليها الملك اهتمامه البالغ. فلا يسعنا إلا أن ننوه بكل المؤسسات والأطر والعاملين على إنجاح هذه المحطة راجين من العلي القدير أن يستشعر جميع أبناء جاليتنا دفء الالتقاء مع الأقارب والعودة للوطن الأم رغم أنني شخصيا لم يعد لدي هذا الاحساس.
ما هي انتظارات الجالية؟
بعد التعليمات الملكية وحرص الملك شخصيا على أن يتمتع المغاربة القاطنون بالخارج بالعناية الكافية، جاء الدستور الجديد ليكرس مكانة الجالية كفاعل أساسي وكمكون من مكونات المجتمع لها ما للمواطنين من حقوق وعليها ما عليهم من واجبات. نفس الدستور وضع الآليات المناسبة لإيصال صوت هذه الفئة من المواطنين ومن ضمنها التمثيلية السياسية لمغاربة الخارج وانخراطهم في بلورة السياسات العمومية واشراكهم في المسلسل التنموي. نفس الدستور وضع مجلس الجالية ضمن مؤسسات الحكامة المنصوص عليها. لكن يبدو أن هذه الهيئة ولدت ميتة وتفتقر إلى حكامة قبل تصنيفها ضمن مؤسسات الحكامة. رغم مرور عقد ونصف على إنشائها هذا المجلس لا زالت الجالية لا تعرف عنه أي شيء. هذا الجمود للأسف قابله نوع من اللامبالاة من طرف الحكومات المتعاقبة منذ 2011 وعجزها التام عن تنزيل المقتضيات الدستورية فيما يخص التمثيلية السياسية. ففي غياب هذه الآليات الموسساتية يبقى صوت المهاجر المغربي غير مسموع، ليس فقط صوت المهاجر وإنما خبرته ودوره في خدمة التنمية يبقى معلقا وهو ما يفوت على البلاد العديد من فرص التنمية. أما نحن من جانبنا المتواضع نسعى قبل كل شيء لإيصال صوت مواطنينا المعزولين فيما يسمى بالعالم القروي والمساهمة في البحث عن الحلول لمشاكلهم من داخل المؤسسات رغم هذا الجهد يواجه عراقيل للأسف.
كيف تقيم تعامل القنصليات المغربية بفرنسا مع الجالية؟
القنصلية المغربية هي قبل شيء إدارة عمومية مغربية وينطبق عليها ما ينطبق على باقي الإدارات سواء داخل أو خارج البلاد. هناك الكثير من الإكراهات ونقص في الإمكانيات توضحها الخريطة القنصلية بنفسها وهذا هو الهاجس الأول لدى الكثير من أبناء الجالية خصوصا البعيدين عن القنصليات وما يليه من تكاليف التنقل لقضاء الأغراض الإدارية. هذا لا يعني بالضرورة أن التغطية القنصلية ضعيفة ولا يعني ذلك انها لا تتوفر على موظفين أكفاء وإمكانيات كافية. بالعكس هناك موظفون محترمون يقومون بمهامهم حسب ما هو متاح لهم، ولا يجب أن تكون بعض الحالات النادرة هي القاعدة. الإدارة عموما تحتاج إلى نوع من الحكام.ة وعلى العموم فالقنصليات بالخارج تقوم بدورها كاملا إذا قارناها ببعض الإدارات التي نلجأ إليها مرغمين داخل المغرب. المسألة مسألة عقليات في الدرجة الأولى قبل أن تكون مسألة إمكانيات. من جانب آخر، لا بد من التوضيح أن هناك فئة عريضة من المغاربة بالخارج لا تعرف أي شيء عن القنصليات وأتحدث عن الأجيال التي ولدت بالخارج. وهذا هو التحدي لدينا جميعا، اي كيف يمكن أن يكون هناك رابط بالبلد الأصل من خلال الثمثيليات الديبلوماسية. هذه الأخيرة لا يجب أن تبقى مهمتها ملخصة في تقديم بعض الوثائق الإدارية. ما أود قوله هو غياب الاهتمام باستقطاب المشاريع التنموية، وهذا يدخل في إطار الديبلوماسية المحلية. وهنا بالمغرب نلاحظ كيف تنخرط السفارات الأجنبية بالمغرب في التنمية في بلدنا. هذا الموضوع يحتاج إلى نقاش عميق ولا يجب أن تبقى الثمثيليات الديبلوماسية مجرد مكاتب لاستصدار الوثائق الإدارية .
ماهي المشاكل التي تواجهها الجالية خلال مقامها بالمغرب؟
الإجابة على هذا السؤال يختلف من شخص لآخر وحسب طبيعة المهاجر ومبررات تواجده بالمغرب. فالمهاجر الذي يعود لأرض الوطن لزيارة الأقارب والاستجمام فغالبا ما يكون مطمئنا على إقامته ويمضي وقته للاستمتاع بعائلته وذويه والإكراهات التي يواجهها هي نفسها التي تواجه مغاربة الداخل والسياح الأجانب، وهذا لا يمكن إيجاد حلول أو بالأحرى محفزات لاستقبال أكبر عدد من أبناء الجالية إلا من خلال سياسة سياحية ناجحة تأخذ بعين الإعتبار العروض التي تقدمها الدول الأخرى. وهنا يجب الأخذ بعين الاعتبار كون الجالية تحتسب الجالية ضمن السياح وهي نسبة مهمة. النوع الثاني من الجالية الذين يواجهون المتاعب هم هولاء الذين يستثمرون بالمغرب من خلال مشاريعهم الخاصة أو من خلال السكن والعقارات وغيرها ،وهذه الفئة فعلا تعيش نوعا من المعاناة ما بين بيروقراطية الإدارات وضيق الوقت لأن الكثير من هؤلاء كثيرا ما يريدون الجمع بين العطلة بين أحضان العائلة والتكفل بمشاريعهم ومعالجة مشاكلهم داخل البلاد. ضيق الوقت وبطء المساطر الإدارية مشكل كبير لدى هذه الفئة وخصوصا أنها غالبا ما تلجأ إلى المقارنة مع دول الاستقبال رغم أن الظروف ليست هي نفسها ولا مجال للمقارنة.
أما الصنف الثالث من الجالية فهذا العبد الضعيف هو جزء منها. أتحدث هنا عن فئة من الجالية اختارت أن تستجيب للنداءات الملكية واختارت أن تضع نفسها في صف المعنيين بالفصل 16 من الدستور الذي يدعو إلى إشراك الجالية في التنمية وفي تنزيل السياسات العمومية. المشاركة فى التنمية هي من خلال المؤسسات وبتنسيق معها وهذا هو المقصود بالنص الدستوري والدعوات الملكية وكذا لجنة النموذج التنموي مؤخرا. من خلال تجربتنا المتواضعة يبدو أن هذا النوع من الجالية غير مرغوب فيه خصوصا على المستوى الترابي فرغم كل ما تفعله الدولة على المستوى المركزي من أجل إشراك الجالية، فعقليات الإدارة على المستوى الترابي تعتبر الجالية طرفا مزعجا لا يجب أن يتحدث في شؤون التنمية. أكثر من ذلك فكل الممارسات التي يجرمها القانون يمكن ان تكون مستباحة في حق الجالية. بعبارة أخرى ومن خلال تجربة دامت لسنوات بإقليم تارودانت، نقول إن هذا المجال مليء بالألغام، وعقلية الفاعل المحلي أحيانا لا تعترف لا بالقانون ولا بالدستور ولا بالأخلاق إذا ما تعلق الأمر بكسر عزيمة الجالية وإبعادها عن الشأن العام. وهنا ندعو الدولة لحماية هذه الفئة التي تعيش الرعب وتتعرض للاستنزاف داخل المملكة وهذا ما أعاني منه شخصيا.
ومن خلال تجربتي الشخصية، فالانخراط في التنمية بالنسبة للجالية هو القبول بشتى أنواع الإهانة والحرب النفسية الرهيبة والاغتيال المعنوي. فإذا كان أفراد الجالية عموما يشتكون من بطء الإدارة، فنحن نعيش الرعب الحقيقي مع بعض الإدارات التي من المفروض فيها أن تعمل على حمايتنا وحماية القانون.
أنت كواحد من مغاربة العالم بفرنسا وتعمل على تعميم الماء الصالح للشرب في مداشر بإقليم تارودانت ما هو تقييمك للوضع على مستوى التزود بالماء الشروب بالاقليم؟
صحيح أنا ابن منطقة تالوين التابعة إداريا لإقليم تارودانت. هذا الإقليم يجب أن يعلم الجميع أنه ليس كباقي الأقاليم. إقليم تارودانت يشكل أكثر من نصف عدد الجماعات الترابية بجهة سوس ماسة ويضم أزيد من 50 بالمائة من الساكنة القروية لهذه الجهة. هذا المعطى لوحده كاف لنقول أن الإقليم يعتبر وصمة عار على التقسيم الجهوي الجديد. وهذا لا يستقيم مع ما ينادي به الملك فيما يخص العدالة المجالية التي تعتبر روح الجهوية الموسعة. وفي أكثر من مناسبة دعا جلالته إلى تفعيل اللاتمركز الإداري الذي يستحيل في ظل غيابه أن تنجح الجهوية ومعها اي نموذج تنموي. أما في داخل الإقليم فيجب التفريق بين المناطق المحيطة بالمركز والقريبة من مركز الجهة والمناطق النائية. المشكلة في الجماعات الجبلية هي التي تعاني في صمت وهي التي تؤدي ضريبة هذا التقسيم للأسف. ومن بين المشاكل التي تواجه هذه المناطق هناك مشكل الماء الشروب وبصفتي شخصيا من أبناء المنطقة فقد عشت الويلات للاستفادة ولو بجزء بسيط من البرامج التي تضعها الدولة والتي حولها البعض إلى ملك خاص يمارس به الابتزاز. ومن جانبنا كجالية نجد كل التسهيلات من دولة الاقامة، وأعني فرنسا التي تربطها شراكة متينة مع المغرب. هذا الانخراط من جانب فرنسا من خلال التعاون اللامركزي الذي يوليه الملك اهتماما كبيرا، يشجعنا كثيرا على العمل على مساعدة الدولة لحل هذا المشكل. وقد سبق للملك أن دعا جميع أطياف المجتمع سنة 2017 لتعميم الماء الشروب بالعالم القروي وطالب الملك في رسالته إلى مؤتمر الجهات بأكادير بالبحث عن التمويلات في إطار التعاون اللامركزي. ونحن كجالية وكملمين بمجال التنمية واللامركزية،، لدينا ما يكفي من الكفاءة للعب هذا الدور. للأسف هذا التجاوب الذي نلقاه من الإدارات الأجنبية والمؤسسات المنتخبة بفرنسا تقابله عراقيل ولامبالاة من الجانب المغربي على مستوى إقليم تارودانت.وهذه أكبر مفارقة نعيشها للأسف وانا اتحدث عن تجربة مريرة لأكثر من 10 سنوات تحولت فيها حياتي الشخصية إلى جحيم من سوء استعمال السلطة والشطط وغير ذلك من الممارسات. أحيانا نحس بأن الانخراط في التنمية بالمغرب و الامتثال للتعليمات الملكية يعتبر جريمة بحسب بعض الفاعلين المحليين. وهذا مؤسف وأكثر من ذلك مخيف. لكن مادام أن هناك خصاص ومادام أن البلاد في حاجة للمساعدة فنحن على استعداد للتعاون مع البلاد. قبل أشهر صرح وزير الداخلية أمام البرلمان بمحدودية موارد الدولة واستحالة تعميم الماء الصالح للشرب بالعالم القروي. شخصيا قد اتفق مع الوزير في هذا الكلام لكن أختلف معه. فالدولة التي نجحت في تعميم الكهرباء وفتحت أوراشا رائدة تستطيع أن تتغلب على هذا المشكل. مشكل الماء الشروب يعاني من غياب الحكامة ومن بعض الممارسات اللااخلاقية واللاقانونية التي تقع بالعالم القروي. إن الخلل الأول يكمن في عقلية بعض الموظفين العموميين وبعض المنتخبين وهذا ما يجب أن يعرفه الوزير المحترم وأن يصل إلى الملك. من الغرابة أن نحصل على دعم كبير بالخارج بمجرد طلب بسيط، في حين نستنزف كل جهدنا امام الادارة للحصول على الفتات وأحيانا للحصول على موافقة. يبدو الامر غريبا بالنسبة لك لكن هذا هو الجحيم الذي أعيش فيه منذ سنة 2009. ولو وجدنا آذانا صاغية ومسؤولين استوعبوا ما معنى المفهوم الجديد للسلطة لكان الواقع شيئا اخر. أما إشكالية الماء فنحن نعيش أزمة، وهي فقط في بدايتها للأسف لأن التغير المناخي أصبح واقعا يجب التعامل معه بمقاربة شمولية تستدعي انخراط الجميع بما في ذلك المواطن نفسه.
كما هو معلوم، نحن نصادف اليوم الوطني للمهاجر، أي يوم 10 غشت، وذلك للتواصل مع الجالية. ما هي انتظارات الجالية المغربية بالخارج في مثل هذه المناسبة بالنسبة لك؟
هذا لقاء ينظم كل سنة وأنا شخصيا لا أعرف عن هذا اليوم اي شيء. وهناك لقاءات تنظم في كل مكان ولا نعرف ما هي المعايير التي تعتمدها الجهات المنظمة سواء على المستوى الوطني والجهوي والمحلي. أسمع بلقاءات على المستوى الإقليمي، لكن منذ انخراطي في خدمة الوطن لم يسبق لي أن تلقيت ولو دعوة واحدة، وهذا يجعلني أقتنع بأنني شخص غير مرغوب فيه بإقليم تارودانت. ولذلك أطالب بالحماية وكلامي موجه لجلالة الملك وهو الوحيد الذي بقي مصدر ثقة بالنسبة لي وابذل ما بوسعي وفقا لتوجيهاته. فعلا هناك لقاءات في كل مكان لكن يبدو أن هذا اليوم اصبح مناسبة لتذوق الشاي وأنواع الحلويات. وتحول هذا اليوم إلى عادة نخصص خلالها بعض السويعات للجالية ليتم نسيان المهاجر باقي السنة للأسف، في حين أن الجالية لها دور كبير في كل أيام السنة و مساهماتهم بالنسبة لخزينة الدولة لا أحد ينكر أهميتها حتى في ظل إغلاق الحدود تثبت الأرقام أن الجالية ليست بحاجة لكي تدخل البلاد ويخصص لها حيز زمني كأننا مجرد عابري سبيل. شخصيا أتمنى أن تكون مناسبة تواجد الجالية بالمغرب مناسبة لفتح نقاش حول كيفية استقطاب الكفاءات لخدمة التنمية انسجاما مع روح الدستور والتعليمات الملكية. الدولة واعية بدور الجالية ليس فقط كمورد للعملة الصعبة وإنما كفاعل أساسي تحتاجه البلاد وتقرير لجنة النموذج التنموي أكد على ذلك. لكن للأسف الدولة لم تحسم في كيفية إشراك الجالية في التنمية وهذا ما يجب أن يكون موضوع مناظرة للخروج بخلاصات من شأنها تفعيل هذا الدور الذي مازال معطلا. الكل يطالب بإشراك الجالية لكن كيف ذلك وما هي الضمانات للإستفادة من كفاءة مغاربة الخارج ومن يحمي مغاربة العالم من الشطط في السلطة وسوء استعمالها من طرف البعض. الأمر من الناحية العملية صعب للغاية وللأسف الشديد حتى الكفاءات داخل المغرب تريد المغادرة والأطباء والمهندسين أكبر دليل على ذلك. اليوم نعيش العولمة يعني أن الدول تتنافس من أجل استقطاب كل ما من شأنه أن يخدم التنمية الاقتصادية من استثمارات وأطر. الدولة مازال لديها هامش كبير وكلما طال الانتظار تضيع فرص التنمية.
في ظل الحديث عن إشراك الجالية في التنمية وتزامنا مع هذا اليوم الوطني للمهاجر الذي يتجدد فيه مطلب المشاركة السياسية، انت سبق وعشت التجربة كمستشار جماعي. ما هو تقييمك لهذه التجربة وكيف اقتنعت بخوضها وهي ليست بالمهمة السهلة وخصوصا في العالم القروي؟
نعم هي تجربة ليست سهلة، بل هي مريرة. وأكثر من ذلك هي بالنسبة لي مغامرة لا مفر منها غيرت مجرى حياتي بالكامل. لم أكن أبدا أفكر في خوض التجربة. وكما يقول المثل المغربي: " مكاينش شي مش يخرج من دار العرس". من جهة المشاركة في الشأن العام من باب عضوية المجلس الجماعي خصوصا بالعالم القروي ليست سهلة وإنما فرضت علي بعد معاناة طويلة مع بعض العقليات داخل الإدارة الترابية والجماعة، عرفت خلالها ما معنى الشطط في استعمال السلطة والإبتزاز والتواطؤ وغيرها من الأساليب التي تمارس ضدي وصلت حد الترهيب. ومازالت صامدا لم أستسلم إلى حد اليوم. هذه السلوكات يهدف من خلالها أصحابها إلى إبعادي عن الخوض في مصالح الوطن والمواطن. لكن إيماني بعدالة ما أطالب به ومطابقته لمصلحة البلاد وللقانون وموافقته لما يدعو إليه ملك البلاد كان قويا. وحاولت الهروب من جحيم إلى آخر بعدما تأكد لي أن الدولة المغربية التي نراها من خلال التوجيهات الملكية ومن توجهات الحكومات وكذا إجماع وتوافق عموم المغاربة من خلال الدستور ليست هي نفسها الدولة التي أراها في أرض الواقع، أي داخل المجال الترابي الذي أعيش فيه. سواء تعلق الأمر بالجماعة أو باقليم تارودانت. ولا أريد الخوض في التفاصيل لكي لا أصدم قراء الجريدة ،لكن أتمنى أن يدرك الملك التمسك بتعليماته بالنسبة لنا هي كالجمرة نحترق بها كل يوم. هذا من جهة. ومن جهة ثانية خوض التجربة سنة 2015 بالذات ساهمت فيه عدة عوامل. اولا هي أول انتخابات تجرى في ظل الدستور الجديد وفي إطار دخول الجهوية الموسعة إلى حيز التنفيذ. كالعادة استحضر دائما خطابات الملك ، إذ كان جلالته يدعو إلى انخراط النخب ذات المصداقية والكفاءة من جهة، ومن جهة أخرى انخرطت في دعوة جلالته للتعريف بمشروع الجهوية عن طريق العمل الأكاديمي خارج المغرب. كل ذلك كان بالإمكانيات الذاتية وكنت مصرا على أن أوفق في المهمتين. والحمد لله وفقني الله في كل ذلك وحاولت جاهدا أن أجعل هذا المسار الأكاديمي في خدمة الوطن والجماعة التي أنتمي إليها ومازلت مصرا على ذلك رغم الضغوط النفسية الرهيبة والإغتيال المعنوي الذي تعرضت له لكي أغادر الجماعة قبل نهاية مدة الانتداب. عندما وصلت هذه الحرب أن تمرغ هيبة البلاد في التراب فلم يعد هناك مجال للإستمرار ولذلك غادرت الشان العام وتنازلت عن كل الحقوق الدستورية وقدمت استقالتي من العمل الجماعي وكذا من الجمعيات، حتى لا أكون مضطرا لدخول بعض الإدارات واقابل بعض المسؤولين. لذا أود بالمناسبة أن أطالب الدولة المغربية بتوفير الحماية لنا كجالية. أستحيي من الدخول في التفاصيل، لكن بالمقابل آتمنى صادقا أن تستمع إلينا الجهات المختصة ولو من باب طمانتنا خصوصا وإنني شخصيا لم أعد احس بهويتي كمواطن مغربي ولا حتى بكوني إنسانا له كرامة يصونها الدستور وذلك كلما دخلت حدود إقليم تارودانت. بالنسبة لي شخصيا فالمغرب ينتهي بمجرد دخول حدود هذا الإقليم الذي أعتبره شخصيا دولة داخل الدولة.
يبدو من خلال هذا الكلام أن هناك الكثير من الإكراهات والعراقيل في طريقك. كيف تصرون على الإستمرار في ظل كل ما قيل؟
ما أعاني منه ليس فقط عراقيل وإنما حرب نفسية رهيبة والإدارة جزء من المشكل ولا نشعر بوجود شيء إسمه الإدارة رغم احترامنا الكامل للإدارة المركزية. أذكرك بخطاب الملك سنة 2016 وكيف تم جلد الإدارة واستنكر تصرفاتها مع المواطن وتحدث عن قطع المسافات ولامبالاة المسؤولين،إلى درجة انه طالب كل من يتهاون في أداء واجبه بتقديم استقالته ولم يستثن من ذلك حتى من يؤدي القسم أمام الله و بين يدي جلالته. عندما سمعت كلام جلالته قلت في نفسي ربما يتحدث عني شخصيا خصوصا وأنه شبه المواطن بالمحارب في علاقته بالإدارة. ما أود أن أضيف لكلام جلالته أنه عندما يتعلق الأمر بمواطن يسعى لخدمة الآخرين ومواطن يقطع المسافات من خارج المغرب من أجل المساهمة في إنجاح توجيهات جلالته فهذه الحرب غير المتكافئة ليست عادية وإنما يتم فيها استباحة كل الأسلحة التي يجرمها القانون. وهنا فقط احكي عن قصتي وأتحمل كامل المسؤولية فيما اقول. كل ما نحلم به هو أن نلمس في إدارتنا ومسؤولينا ولو 10% من أخلاق ملك البلاد وعطفه على رعاياه وخصوصا في العالم القروي.
شيء مؤسف. أنتم كدكتور في التنمية والجهوية الموسعة كيف تنظرون إلى هذا الورش الكبير وكيف للجالية المغربية أن تساهم فيه وكذا في النموذج التنموي؟
سؤال مهم وانا بدوري أطرحه باستمرار. الجهوية فعلا هي مشروع طموح. لكن للأسف تبقى إشكالية التنزيل وهي الإشكالية التي تواجه أي نموذج تنموي. الملك محمد السادس شخص الوضع وأعطى الحلول. عندما وضع الخطوط العريضة للمشروع أكد على عدة شروط وأولها توفر نخب كفؤة ونزيهة، لكن للأسف هذه النخب لا مكان لها في أرض الواقع وتتم محاربتها، وإن كانت من الجالية فلا من يقف بجانبها يؤازرها لتواجه المعاناة لوحدها. هناك عقليات وصفها الملك، في إطار حديثه عن الجهوية، بالبيروقراطية والمتحجرة وتريد أن تعود بالبلاد إلى الوراء من جهة، ومن جهة أخرى هناك نخب سياسية تنخرها الإنتهازية، ودون أن نعمم بطبيعة الحال. وسبق للملك نفسه أن قال إنه لا يثق فيها فكيف للمواطن أن يثق فيها وفق تعبير جلالته. فعلا ما قاله الملك نلمسه من خلال الممارسة. لكن عندما نتحدث عن النخب فمنها النخب الإدارية كذلك ومنها من لا يستحق الثقة بل هي مصدر للخذلان للأسف. ومصير الجهوية والنموذج التنموي رهين بمدى قوة هذا التيار وتجذره داخل المؤسسات. الدستور الجديد كرس الجهوية كخيار لا رجعة فيه لكن من خلال التجربة إتضح أن ما جاء به الدستور شيء والواقع شيء آخر. عندما نستخف بالدستور والقانون فنحن نبصق على الجهوية والدستور معا وهذا الكلام موجه للمنتخبين والمسؤولين الإداريين الموكول لهم حماية القانون وتنزيل الدستور. إستقالة الإدارة من مهامها الرقابية هو أكبر تحد أمامنا. الدولة وضعت قوانين ومنها قوانين تؤطر اللامركزية وفق ما جاء به الدستور لكن هذه الأخيرة في حاجة إلى من يحميها و يسهرعلى تنزيلها في احسن وجه. غياب الرقابة الصارمة يعني أننا نقول للدولة لا حاجة لنا بالدستور ولا داعي لتشكيل المجالس الترابية ولا حتى البرلمان مادامت التشريعات والقوانين لا تنفذ على أرض الواقع.
على ضوء ماشرحت، بماذا تنصح مغاربة العالم؟
الملك قال بأننا من واجبنا أن نقول الحقيقة ولو كانت مرة. البلاد سئمت من لغة الخشب ليس فقط من السياسيين والإداريين وإنما النخب الأكاديمية بدورها استقالت من مهامها لتشريح الواقع وإيجاد الحلول المناسبة.
ما أود أن أقوله من خلال تجربتي المتواضعة كفاعل محلي بالعالم القروي وكفاعل في مجال التعاون اللامركزي وأيضا كمتخصص في التنمية واللامركزية هو ما يلي: الدولة تبذل مجهودات جبارة من أجل التنمية والمغرب يستقطب 60% من تحويلات الجالية المغاربية بدولها الثلاث اي المغرب و الجزائر وتونس، وكذا حوالي 60% من مساعدات التنمية (aide publique au développement ) الموجهة لهذه الدول. والجالية المغربية تلعب دورا هاما في هذا المجال سواء من خلال التحويلات أو من خلال المشاريع التنموية التي تسهر عليها جمعيات المجتمع المدني بالخارج. لكن المفارقة أن المغرب يأتي وراء جيرانه في سلم التنمية البشرية للأسف. هذا يعني أن هناك مشكلا في الحكامة. وفي نظري يبقى تنزيل السياسات العمومية أكبر هاجس وهذا يعود الى عجز النخب المحلية والادارة الترابية خصوصا على مستوى الأقاليم عن ممارسة دورها. هذا ما لمسته في إقليم تارودانت. ربما أن شساعة الإقليم لها دور في ذلك. وبالمناسبة أدعو وزير الداخلية أن يفتح بجدية موضوع التقسيم الإداري. الملك يقول باستمرار بأن نجاح الجهوية يستحيل في ظل غياب اللاتمركز الإداري الواسع. ونحن نختنق في إقليم تارودانت من جراء التقسيم غير المنصف. والمناطق الجبلية هي أكبر متضرر والمواطنون يعانون الويلات خصوصا في تارودانت الشمالية التي تبعد عن مركز الإقليم، ولكونها تضم جماعات قروية هشة. نحن ننتمي إلى جهة سوس ماسة التي تضم 6 أقاليم لكن نصف الساكنة القروية يوجد فقط باقليم تارودانت. هل عميت أعين المسؤولين إلى هذه الدرجة؟.
الملك خص الجهة بخطاب دون غيرها من الجهات، ويريد من هذه الجهة أن تكون مركزا للإقتصاد الوطني ومحورا للتنظيم الترابي للمملكة. لكن هذا مستحيل ما دامت الجهة عرجاء في ظل التقسيم الحالي الذي جعل الثقل على إقليم واحد من بين 6 أقاليم. هذا الإختناق الذي نعيشه دفع المواطنين والفاعلين المدنيين وكذا المنتخبين لإطلاق حملة توقيعات في إطار ملتمس إحداث إقليم تالوين في إطار العدالة المجالية. أتمنى من كل الجهات المسؤولة أن تستجيب لهذا المطلب المشروع.
أما رسالتي للجالية فأقول أن كل واحد منا يستطيع أن يكون فاعلا في التنمية ما دامت دول الإستقبال تبدي رغبتها وتفاعلها في كل ما يتعلق بهذا البلد، في حين لا نلمس هذا الإحساس لدى بعض المسؤولين محليا. ولا يسعنا إلا أن نشجع مغاربة المهجر على الإنخراط الفعلي في مجهودات البلاد. وأقول للجالية أن دول الإستقبال تولي اهتماما كبيرا بتنمية المغرب وتشجع الجالية على ذلك وتقدم الدعم اللازم. وبقدر ما نشجع الجالية ونضع خبرتنا وتجربتنا رهن الإشارة نتمنى لجاليتنا ان لا يصادفوا في طريقهم طينة المسؤولين الذين صادفتهم شخصيا وإلا ستتحول غيرتهم على هذا الوطن إلى نقمة.
وفي الاخير أود أن أشكر بعض المؤسسات وعلى رأسها وكالة الحوض المائي لسوس ماسة وأحيي روح الوطنية لدى مسؤولي الوكالة. كم كانت أمنيتنا ان نجد مثل هؤلاء المسؤولين داخل الإدارة الترابية وداخل الهيئات المنتخبة. وهنا ادأوجه نداء لرئيس جهة سوس ماسة ولرئيس مجلس إقليم تارودانت وكذا في باقي ربوع المملكة ان يخصصوا جزءا من التمويلات لدعم المشاريع التنموية التي تسهر عليها جمعيات الجالية. من العيب ومن العار أن تساهم المجالس المنتخبة ومؤسسات الدولة في الخارج في تمويل هذه المشاريع وبسخاء كبير، وبالمقابل لا نتلقى أي دعم من مجالسنا رغم أن مجالها الترابي هو المستفيد منها. وهذا النداء موجه كذلك للوزارات والمؤسسات العمومية وكذا مقاولات القطاع الخاص.