"ماهية البيئة" حسب القانون 12.03
يشير النص القانوني إلى أن البيئة هي " مجموعة العناصر الطبيعية والمنشآت البشرية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تساعد على وجود وتغيير وتنمية الوسط الطبيعي والكائنات الحية والأنشطة البشرية".
تتضمن هذه الفقرة فكرة عامة عن "العناصر الطبيعية" و"الوسط الطبيعي"، دون تفصيل، مما يربك شيئا ما غير العارفين بماهية الوسط الطبيعي وماهية عناصره التي لم يُفصح عنها المشرّع، غير أن عدم تحديد هذه العناصر الطبيعية يحمل في طياته إيجابيات منها فتح باب الاجتهاد لجرد مكونات الوسط الطبيعي، إذ قد تختلف من منظومة بيئية إلى أخرى ومن فضاء مناخي إلى آخر، ومن تخصص لآخر، من ناحية، وتتغير قيمتها ومكانتها الوظيفية حسب طبيعة المشاريع المراد إنجازها للتنمية والتهيئة والتجهيز من ناحية أخرى. فبطبيعة الحال، للنصوص القانونية أهداف أخرى، ولا يمكن لها أن تقدم كافة التفاصيل في ميدان ما، وبالتالي وجب الاستناد إلى المعرفة العلمية لاستكمال فهم السياق الذي يُسن فيه كل قانون. فالهدف الأساسي من هذا القانون هو حماية البيئة وصيانتها من خلال تشريعات ملائمة تحدد وتوجه الإجراءات الكفيلة بتحقيق ذلك، بدءا من الدراسات ووصولا إلى الممارسات، لضمان الحفاظ على التوازن والاستقرار البيئي ومنع التدخلات العشوائية غير المحسوبة العواقب.
"دراسة التأثير على البيئة" حسب القانون 12.03
يشير النص القانوني إلى أنها "دراسة قبلية تمكن من تقييم الآثار المباشرة وغير المباشرة التي يمكن أن تلحق البيئة على الأمد القصير والمتوسط والبعيد نتيجة إنجاز المشاريع الاقتصادية والتنموية وتشييد التجهيزات الأساسية وتحديد التدابير الكفيلة بإزالة التأثيرات السلبية أو التخفيف منها أو تعويضها بما يساعد على تحسين الآثار الإيجابية للمشروع على البيئة".
يوضح هذا النص بادئ ذي بدء أن دراسة التأثير في البيئة ينبغي أن تكون قبلية، وليس بَعديةً كما هو الحال بالنسبة لـ "الطريق السياحية" التي نحن بصددها، إذ يُتوخى من إنجازها الوقاية أولا وقبل كل شيء، من كل ما يمكن أن يُرتقب من سلبيات إنجاز مشروع ما. ويلاحظ هنا أن المشرّع ذهب بعيدا في التوقع، بحيث لم يحدد سقفا زمنيا للانعكاسات البيئية للمشاريع، إيجابية كانت أو سلبية، إذ شمل كل الأمداء، القريب والمتوسط والبعيد؛ كما أنه وضع الآثار المباشرة وغير المباشرة على قدم المساواة، وفي هذا دعوة إلى التقويم الشمولي والمندمج للمشاريع، والذي يعتبر مهمة تناط بذوي الكفاءة والخبرة، وتأخذ في الاعتبار تداخل مختلِف التخصصات والتكامل فيما بينها. وثمة أيضا مغزى خاص لاعتماد المدى البعيد، وهو ضرورة تبنّي الرؤية الاستشرافية التي تندرج ضمن فلسفة التنمية المستديمة، والتي ترتكز على ضمان حقوق استغلال الموارد المتاحة للأجيال الحاضرة والمستقبلية على السواء، وهو أمر يتطلب صيانتها وترشيد استعمالها وضمان تجدد عطائها.
"الموافقة البيئية" حسب القانون 12.03
يوضح المشرّع في هذا الصدد أن "التأثير على البيئة" شأن عام يُتخذ فيه القرار من قِبل "السلطة الحكومية المكلفة بالبيئة طبقا لرأي اللجنة الوطنية أو اللجان الجهوية لدراسة التأثير على البيئة والذي يشهد من الناحية البيئية بإمكانية إنجاز المشروع الخاضع لدراسة التأثير على البيئة". والغريب أن البعض يتجاهلون هذا ويروجون أن الأمر شأن محلي يحسم فيه السكان المحليون وممثلوهم المنتخبين. وهنا تتجلى أهمية استحضار البعدين الجهوي والوطني والسلطة الحكومية في كون قضايا حماية البيئة من الأضرار والاضطرابات، شأنا عاما لا يمكن الترامي عليه والتقرير فيه من قبل أفراد أو جماعات، حتى ولو كانت هذه الأطراف من المنتخبين أو من ممثلي السلطة (غير المكلفة بالبيئة)، باعتبارهم غير مؤهلين قانونيا للقيام بعملية تقييم أو تقويم أو افتحاص للمشاريع إلا في حدود اختصاصاتهم التدبيرية المحدودة.
مضامين القانون 22.80 ومهام السلطة الحكومية المكلفة بالشؤون الثقافية
يتساءل البعض عن علاقة وزارة الثقافة بالطرق. وإذ يبقى التساؤل مشروعا في إطار معرفة الاختصاصات الإدارية، بل حتى من باب الفضول، غير أن الدعوة إلى رفض أي تدخل للسلطة المكلفة بالثقافة في مشروع الطريق تنم عن جهل لا يعذر به أحد، وهو الجهل بالقانون. كما يعكس هذا الموقف أيضا انعدام الوعي بمكانة المكونات البيئية الطبيعية والثقافية واندماجها، وقيمتها ووظائفها، وبمختلِف أبعادها المادية واللامادية. كما يشير المرسوم رقم 2.81.25 (أكتوبر 1981) الخاص بتطبيق القانون 22.80 إلى "المعالم الطبيعية"، و"المناظر التي لها طابع فني أو تاريخي أو أسطوري أو طريف أو تهم العلوم التي تُعنى بالماضي والعلوم الإنسانية بوجه عام " وكذا "المناطق المحيطة بالمباني التاريخية".
وتصطدم بهذا الواقع القانوني والإجرائي العديد من الآراء والمواقف التي ألّبت "الرأي العام" في محاولة "قرصنة" هذا الشأن العام للبت فيه والتصرف فيه فقررتْ فيه وأفتتْ، بدون أي سند أو اختصاص علمي أو إداري أو مسوغ قانوني. ولعل الأكثر غرابة في الأمر هو انخراط بعض المثقفين والمحسوبين على "الكفاءات" في الحَراك الذي جسّد هذه المواقف الغريبة في شأن "الطريق السياحية"، بل يوجد من بينهم من يدعو بصريح العبارة إلى التمرد على تطبيق القانون لتمرير المشروع، وإلى رفض القيام بأي دراسة (كذا!).
وإذا كانت هذه التصريحات والمواقف غنية عن كل تعليق، يجدر بنا التذكير بأن السلطة الحكومية وحدها هي التي يخول لها القانون صلاحية اتخاذ قرار "الموافقة البيئية" الذي يصادق على إمكانية إنجاز المشاريع الخاضعة لدراسة التأثير على البيئة (البند 4 من المادة 1 / قانون 12.03). وعلى مستوى آخر، فإذا كانت التدخلات التي من شأنها إحداث تغييرات أو تأثيرات في المنقولات الخاصة المدرجة في عداد الآثار (الفصلان 22 و34) تتوقف على إذنٍ يُمنح "بموجب مرسوم يتخذ باقتراح من السلطة الحكومية المكلفة بالشؤون الثقافية وكذا بعد استشارة الوزير المكلف بإعداد التراب الوطني"، فما بالنا بإحداث تغييرات وتأثيرات في المجالات العامة الحساسة، والتي تزخر بـ "المعالم الطبيعية" وبالمناظر التي "تهم العلوم التي تُعنى بالماضي والعلوم الإنسانية والمناطق المحيطة بالمباني التاريخية" كما هو الشأن بالنسبة لحافّة أزرو والأبراج التاريخية التي تحف أجزاء منها، وقد اندثر منها الكثير؟ (الفصلان 2 و13 من الظهير الشريف رقم 1.80.341 الصادر في 25 دجنبر 1980).
تراث واحة فجيج بإدراجها في عداد الآثار (مرسوم 2.12.46 – 12 ماي 2012)
تم تصنيف واحة فجيج وطنيا ضمن عداد الآثار، بناء على طلب تقدمت به السلطات الوصية المحلية، بعد عمل دؤوب لإبراز المكونات التراثية المحلية للواحة وقصورها، وقد أسهمت ثلة من الفعاليات المقيمة وغير المقيمة في تقديم ملف مقنع في هذا الصدد. ويقال الشيء نفسه عن الملف الذي قُدّم بنجاح لمنظمتي الإسيسكو واليونسكو. وهكذا يمكن القول إن فجيج حسّنت ظهوريتَها وطنيا وجهويا ودوليا، بما في ذلك هوياتيا، بما قد يعود عليها بالنفع على عدة مستويات، ولا سيما على صعيد الاستثمار والتنمية، بما في ذلك التنشيط المتوازن للقطاع السياحي. ويرتقب أن تُفعَّل هذه الظهورية وأن تُستثمَر بقوة بعد الحصول على تصنيف نهائي لدى منظمة اليونسكو، وهو ما تتوقعه الأوساط المختصة والمتتبعة للملف الذي تم تقديمه، والذي أفضى إلى تسجيل الواحة بنجاح في اللائحة الإشهادية للتراث العالمي.
ينص القانون الصادر بإدراج فجيج في عداد الآثار على منع "تشييد أي بناء داخل منطقة النخيل (المبينة في التصميم المرفق)، ولا يجوز إتلاف أو تغيير طبيعة الأشجار والنباتات، غير أنه يمكن تعويض كل ما تم إتلافه بفعل حوادث مفاجئة أو كوارث طبيعية" (المادة 2). ويرتبط تطبيق هذا القانون بما ينص عليه المرسوم 2.81.25 (22 أكتوبر 1981 الخاص بتطبيق القانون 22.80)، والذي ينص على أنه "يتوقف على موافقة السلطة الحكومية المكلفة بالشؤون الثقافية إقرار كل تغيير تهدف إلى إدخاله على الارتفاقات المترتبة على الإدراج في عداد الآثار مخططات التهيئة والتنمية وغيرها من وثائق التعمير وإعداد التراب الوطني" (الفصل 31).
ففي هذا القانون نلمس مدى الحزم في مسألة إدخال التغييرات على ما هو قائم من الارتفاقات والمناظر والنباتات، علما بأن تصميم التهيئة للواحة وثيقة من وثائق التعمير وإعداد التراب الوطني، سارية المفعول بقوة القانون، وآخذة بعين الاعتبار هذه الإجراءات القانونية، وبالتالي تحترم ما هو مصنف وما هو جدير بالمحافظة، حيث استمر هذا التصميم الجديد في تصنيف شريط حافّة آزرو ضمن النطاق غير المرخص للبناء، والذي نص عليه التصميم السابق، ليس فقط لأسباب جيوتقنية، وإنما لأسباب تراثية. وإضافة إلى ذلك اقترح التصميم السابق طريقا دائرية حول المجال المبني القديم بقصر زناقة، على غرار القصور الأخرى، لفك العزلة بتحسين الولوجية وتخفيض كلفة الصيانة والترميم والتحفيز على عدم إخلاء الأحياء القديمة، غير أن هذا الاقتراح بقي حبرا على ورق .
وفيما يخص إدراج فجيج في عداد الآثار، فمن البديهي أن يُفهم من عبارة "عداد الآثار" كل التراث بشقيه الطبيعي والثقافي، طبقا لما تورده النصوص القانونية الأخرى الواردة أعلاه من إشارات واضحة في هذا الشأن. كما أن إجراءات حماية واحات نخيل التمر التي يشير إليها هذا المرسوم (2.12.46 – 12 ماي 2012) ينبغي أن تقترن بمضمون قانون آخر لا داعي للتفصيل فيه وهو القانون الذي ينص على حماية الواحات والنخيل (القانون رقم 06.01).
وعلى الصعيد العالمي، تشير الشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى أن إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي، وبصدد الحقوق الثقافية، أكد على "توفير الفرص التي تتيح للمجموعات البشرية في آن معًا المحافظة على ثقافتهم وبلورة التنمية الثقافية والاجتماعية، ويشمل ذلك المجالات المتعلقة باللغة والأرض والموارد الطبيعية" ([ii]).
ففي سياق بلورة السياسات والإستراتيجيات الكفيلة بحماية التراث الثقافي والطبيعي وتنميته، أوردت منظمة اليونسكو ضمن الخطوط الأساسية لهذا الإعلان الاعتراف بإسهامات الدرايات التقليدية المحلية واحترامها وحمايتها، فيما يتعلق بحماية البيئة وتدبير الموارد الطبيعية وتعزيز التآزر بين العلوم الحديثة وبين المعارف المحلية (البندان 13 و14). ومن البديهي أن ينظر إلى موروث واحة فجيج من هذه الزاوية، حيث لازالت الدرايات التقليدية المتوارثة تشكل جوانب من الهوية المحلية الجديرة بالحماية ورد الاعتبار.
المكونات البيئية في واحة فجيج
إذا كان القانون 12.03 يشير إلى "المناطق الحساسة والمناطق ذات المنفعة البيولوجية والإيكولوجية والمناطق الموجودة فوق الفرشات المائية ومواقع تصريف المياه"، فإن واحة فجيج بصفة عامة والشريط الذي تمر به "الطريق السياحية" بصفة خاصة، تُؤوي مواضع معنية بامتياز بالهواجس التي توحي بها هذه التصنيفات. ويضاف إلى هذه السمات ما ورد في نصوص أخرى سوف نوضحها في معرض الحديث عنها.
يستدعي الوضع القائم منذ شهور بواحة فجيج التعريف بالوسط الطبيعي المحلي، مع إبراز عناصر مكوناته التي تجسد الواقع البيئي، وذلك من منظور أكاديمي يرتكز أساسا على الدراية التخصصية والمعرفة الميدانية والتي بدونها لا يمكن استيعاب الأبعاد المختلفة للموروث الذي يتمحور حوله الجدل السائد حاليا في مختلف تجلياته. وحتى على مستوى ما هو رائج، توجد ثغرات ورؤى جزئية وتجزيئية، حيث تقتصر المقاربات عادة على تخصصات دون غيرها. فمكانة الدراسات المجالية وعلومها حاضرة بقوة أكاديميا وفي الواقع العملي الميداني، غير أن نصيبها يبقى غالبا محتشما، ولا سيما في بعض المقاربات التقليدية، إن لم يكن منعدما أو مغيَّبا تماما كما هو الحال عادة بالنسبة للتنمية الاقتصادية. فالتنمية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا تحت مظلة رؤية شمولية ومندمجة لمكونات المجال الجغرافي، حيث تتأثث المشاهد بالمكونات البيئية الطبيعية والثقافية، الموروثة والحالية النشطة، إلى جانب الموارد الطبيعية والاقتصادية. وينبغي اعتبار البيئة في هذا السياق بأبعادها الطبيعية والثقافية المادية واللامادية، فضلا عن توخي الرفع من مستوى عيش السكان الذي هو عماد كل تنمية، دون الإخلال بتوازنات المنظومات البيئية وضمان استقرارها، واستدامتها.
تشكل الأشكال التضاريسية خلفية ومكونا أساسيا لكل مشهد، لكنها غالبا ما ينظر إليها على أساس أنها تنتمي إلى الجيولوجيا، بينما ثمة علم خاص بها وهو لصيق بالجغرافيا أكثر مما هو مقرّب من الجيولوجيا، ونعني هنا علم "الجيومرفولوجيا"، والذي يدمج عددا من علوم الأرض مع العلوم الجغرافية الطبيعية أساسا، بل والبشرية أيضا، بحكم علاقة معيش المجتمعات البشرية بالمكونات التضاريسية والحركية التشكالية وما تفرضه من مزايا وإكراهات. ولنا في هذا الصدد مثال ظاهرة التصحر التي هي ظاهرة اجتماعية بامتياز، بينما أخطر ما يحدث فيها هو تعرية الترب، والتي تنشط بالآليات المورفودينامية.
المشاهد في واحة فجيج
إن المشاهد (paysages) أو المناظر لدى البعض وحسب بعض النصوص القانونية، تعتبر بمثابة العنصر الذي يجمع ويدمج كافة العناصر الأخرى، البشرية والطبيعية على السواء، مرئية كانت أو غير مرئية. فالمشهد يراه جميع الناس، كل من منظوره، فيدرك منه ما يتيحه اهتمامه ومبتغاه، ولربما تكوينه العلمي وتخصصه، وثقافته أو ما علِمه مما هو متداول من المكتوب ومن المروي شفويا. وأمام هذا التباين وعدم التكافؤ، يجدر تصحيح بعض المفاهيم والصور الرائجة، والتي تنطوي أحيانا على تمثلات مغلوطة أو معاني غير دقيقة، في حدود فضاءات المجال الواحي الفجيجي.
نعود إلى علم "إيكولوجية المشاهد" والذي انبثق من تفاعل علم البيئة مع علوم أخرى ضمن حقول معرفية تعنى بالمشاهد بشكل أو آخر، وتسعى إلى تفسير تنظيمها المجالي وفهم الحركية المنخرطة في تحقيق توازناتها من أجل ضمان استقرارها. فالمشاهد أصلا تشكلت من خلال هندسة أفرزتها السيرورة الطبيعية، غير أنها غالبا ما تحمل بصمات للتدخلات البشرية عبر الزمن، منها مُخِلة ومنها محافظة. وهكذا ترتكز عملية تقويم الأنشطة البشرية من منظور بيئي على تحليل انعكاسات هذه الأنشطة على المشاهد، وهي عملية تتطلب كفاءة نظرية وعملية مهنية، تحت رؤية شمولية ومندمجة، تاريخية وواقعية واستشرافية. وفيما يلي نحلل أهم المكونات التي تتضمنها المشاهد التي تخترقها الطريق المنجزة قسرا، والتي تؤثث الفضاءات المعنية بالحماية والصيانة التي تنص عليها القوانين الواردة أعلاه.
الجرف الصخري "أزرو"
تطلق هده الكلمة على الحافّة التي تفصل بين مستويي السهل الذي يحتضن واحة فجيج، وتعمم عليه غالبا كلمة "أزرو" المشتقة من جذر أمازيغي يعني "الحجر". وتعرف هذه الحافة اصطلاحيا بكلمة "الجرف" التي تقابلها بالفرنسية escarpement وليس falaise التي تخصص على المستوى الاصطلاحي للأجراف الساحلية لكونها ناتجة عن التشكيل بفعل أمواج البحر دون غيرها من الأجراف القارية. فجرف أزرو قاري ولا علاقة له بالبحر مطلقا، مما يُبعده عن كلمة falaise لأنه شكل تضاريسي مشتق من جرف انكساري تنبثق على طول امتداده أغلب عيون فجيج، إن لم نقل كلها. فمع مرور الزمن، راكمت هذه العيون إرسابات رصراصية قارية سطحية تتداخل مع تراكمات فتاتية سيلية، تعاقبت في جبهة جرف الانكسار الأصلي، لتتقدم تدريجيا نحو السافلة على مدى أفقي أقصاه حوالي 500 متر، وبارتفاع نسبي لا يفوق 30 مترا في أقصى مداه. فهو إذن تطور نتيجة للبناء والتراكم، مما يجعله جرف خط انكسار وهو عكس ما يعرف عن الجرف العادي من تراجع بفعل التعرية مع مرور الزمن والذي يصبح بدوره أيضا جرف خط انكسار.
يعتبر هذا الجرف تشكيلا قاريّا بَنَته إذن عيون معلقة نسجت شلالات، نشطت بقوة خلال فترات مناخية أكثر رطوبة من المناخ الحالي، وقد أسهم انبثاق مياهها المضغوطة وتدوّمها في تراكم كلس الينابيع الذي يسمى "رصراصة" (travertin)، وهي "تافزا" باللهجة الأمازيغية المحلية. وللإشارة أيضا، فالمستوى المشرف الذي يُؤوي القصور العليا للواحة، والذي يحده الجرف لا ينطبق عليه الاصطلاح الشائع "الهضْبة" (plateau)، في غياب ما يؤهل هذه البقعة ذات الامتداد المحدود لهذه الصفة. فالأمر يتعلق بجزء لا يتجزأ من سهل صغير، والذي لا تخول فيه الحافّة صفة هضبة، فضلا عن غياب أي تعمق يذكر لأي مجرى مائي.
يعتبر هذا الجرف المتميز بمظاهره وسحناته المختلفة، موروثا بيئيا ثمينا، لأنه من مخلفات مناخات قديمة تميزت برطوبة ملحوظة، تعاقبت على مر بضعة ملايين من السنين، مع فترات قحولة مفرطة. وإذ يبقى تأريخ هذا الصخر متعذرا في غياب دراسات وتحاليل مخبرية في هذا الشأن، تبقى أهم التراكمات الأقرب إلى الفترة الحالية منتمية إلى الزمن الجيولوجي الرابع والذي تمتد بدايته إلى حوالي 2.58 مليون سنة قبل الآن. فحتى بدون تأريخات مطلقة، يمكن الجزم بتداخل عدة أجيال من الرصراصة، تنتمي إلى عدة فترات زمنية طويلة وقديمة قد تتعدى الزمن الرابع، موازاة مع قدم الانكسار الذي تراكمت بموجب حدوثه هذه التوضعات القارية السطحية.
عرف الزمن الرابع ذبذبات مناخية جعلت المنطقة تحت فضاءات بيئية تارة أكثر قحولة وتارة أخرى أكثر رطوبة. فإذا كنا نعيش حاليا في فترة قحولة ملحوظة، فقبل بضعة آلاف من السنين، كانت واحة فجيج ومحيطها، بل والصحراء الإفريقية الكبرى تحت ظروف أقل قحولة، وبالتالي تحت رطوبة واضحة تشهد عليها الرسوم التي نقشها الإنسان القديم في ألواح صخرية بمواضع مختلفة حول الواحة (العصر الحجري الجديد). وتجسد هذه الرسوم حيوانات لا يمكن أن تعيش إلا في بيئات تتميز بوفرة المياه والأعشاب بالنسبة للعاشبة منها، وبوفرة الوحيش والطرائد بالنسبة للاحمة منها، وهذا ما دونه الإنسان القديم في مواضع عديدة مثل حيتامة قرب مدخل واحة فجيج وغيرها بفج تاغيت وحول إيش.
تقلصت هذه الرطوبة بسبب فترة إقحال تدريجي للمناخ لا زالت مستمرة حاليا، وقد بدأت قبل 4200 سنة لتدشن تقسيما زمنيا جديدا، حمل اسم "الميغالائي" (Méghalayen) منذ صيف 2018 بقرار اللجنة الدولية للستراتغرافيا، وهو ثالث وآخِر مستويات فترة الهولوسين التي تعتبر أحدث تقسيمات الزمن الجيولوجي الرابع والتي تأتي بعد البلايستوسين. وتحمل هذه الصور دلالات تأولية هامة، ينبغي استثمارها بما تستحق من عناية في سياق أنشطة جيوسياحية وعلمية عن البيئات القديمة بصفة عامة.
الأبعاد التراثية لفضاءات "إموزّار"
كلمة "إموزّار" الأمازيغية جمع مفرده "مازّر" أو أمازّر"، وتعني "الشلالات"، وتطلق على فضاء متميز ضمن "جرف أزرو" حيث توجد شلالات طبيعية أصلا، قام الإنسان باحتوائها من خلال جر مياهها عبر أقنية اصطناعية تصب في السواقي التي تستعمل لصرف مياه العيون نحو صهاريج التخزين. ويستشف من واقع الهندسة المحلية للمياه ذات التاريخ العريق، أن الأجداد أجادوا التدخل للاستفادة من مياه هذه الشلالات بتقنيات عريقة، بدائية حقا، ولكنها عالمة ولا تخلو من براعة. اهتدوا إلى مصدر الينابيع، ثم شقوا قنوات تحت الأرض موصلة إلى السطح بفتحات منتظمة للتهوية والصيانة، مع الحفاظ على انحدار مدروس بدقة، بحيث يسمح بالإشراف على الأراضي القابلة لسقي البساتين المستصلحة للزراعة. وتسمى هذه القنوات في شمال إفريقيا بالخطارات أو الفجارات ("قناة" بالفارسية)، بينما تحمل محليا اسم "إفلي"، وجمعه إفلان أو الأصح، إفْلاوْنْ) والأرجح أنها ممزّغة من الكلمة العربية "إفليج"، بنطقها الأمازيغي الأصلي "إِفْلِييْ" .
البيئات القديمة ومراحل تعمير الواحة
يحمل جرف أزرو في طياته عناصر ذات دلالات هامة، حيث تساعد على فهم التاريخ الغابر للواحة وتنير ظروف التعمير والاستقرار فيها. ويمكن من خلال تأويل هذه الدلالات أن نرجح فترة الاستيطان بسهل زناگة إلى ما بعد الذروة المناخية الهولوسينية، ذلك أن فترة هذه الذروة الرطبة عرفت الشلالات (إموزّار) نشاطا قويا على نطاق واسع وعلى طول حافّة أزرو. تبين خصائص المشهد التضاريسي ومكونات سحناته وتوطينها وتوزيعها أن المياه المتدفقة كانت غزيرة، جعلت سهل زناگة الممتد في قدم الشلالات عبارة عن مستنقع في معظمه، وبالتالي غير قابل للاستيطان وللاستقرار البشري، بل وحتى للأنشطة الزراعية، خلافا لما هو عليه الحال تحت المناخ الحالي. وتستند هذه الفرضية إلى طبيعة الترَب والصخور المنتشرة في هذا السهل، من صلصال (اتْلاغْت، بالأمازيغية) المنتشر في أرضية بعض أحياء البساتين وعلى رأسها الرستاق المسمى "تيلاغين" والذي يمتد حتى أضرّاس بجوار حي بابا عمرو، حيث حفظت تربة بسحنات الأوحال الميهة السوداء والكلس المنقعي الأبيض (أومليل) الذي يبرز في حي بغداد، ولا سيما في تيقورار. فهذه المواد تنتج عن ترقيد في وسط ميّه راكد أو شبه راكد تنمو فيه نباتات إلفمائية وفيرة، اتسعت رقعته خلال الفترات الرطبة، خلافا للفترة القاحلة التي سبقتها ومثيلتها الحالية التي جففته.
وعلى صعيد آخر، تُبرز المعطيات الميدانية المحلية كيفية تعاطي الفلاحين مع البيئة، حيث اكتسبوا درايات محلية تنسجم مع الظروف السائدة وعواملها. وإذ تنقسم الأراضي المستصلحة إلى علوية وأخرى سفلية يفصل بينهما الجرف الرصراصي، فقد عملت هذه الهندسة العريقة على تبليط السواقي بالمِلاط الجيري للحد من تسرب الماء وهدره، وفي تناغم تامّ مع المشهد الطبيعي الذي تؤثثه المادة الصخرية نفسها لونا وتركيبا ومظهرا. كما برعت أيادي القدامى في تمرير السواقي بحيز الجرف بمهارة عبر ممرات تكاد تكون طبيعية، ربما للتقليل من المجهود وكلفته، لكنها أيضا في اتساق بديع، وبأصالة عالية جميلة، أنجزتها كفاءات لم تتوان في خلق شلالات وجنادل مصغرة رائعة المنظر، إذ توحي بما كانت عليه سابقا بل واشتقت منه فيما يبدو. التصقت بهذه السواقي وبنض مياهها التائهة في ثنايا الجرف عناصر من ثروة نباتية طبيعية تضم "الكبّار" فوق السفح، بينما تنتشر بعض بقايا الخروب (تَسْليوْغا) والزّعبُج (العُتم أو الزيتون البري، أزمّور بالأمازيغية) في قدمه. فهذه المخلفات النباتية أيضا إرث طبيعي حي له قيمة دلالية بيئية قديمة، إذ تكيفت في هذه المواضع المتميزة بارتشاح الماء الذي ينضح بقدم الجرف، بينما كانت واسعة الانتشار في المنطقة، قبل أن تنقرض نتيجة لإقحال مناخي.
وعلى امتداد حافة أزرو، من تاشرومت غربا إلى مشارف الحمام الفوقاني شرقا، تزخر الصخور الرصراصية بموروث قديم تجسده المستحاثات النباتية والحيوانية التي تشكل أدلة علمية على طبيعة الظروف المناخية القديمة التي عاشت تحت فضاءاتها، كما تختزن أسرارا أخرى ببصمات بشرية في مغاراتها ومخابئها غير المستكشفة لحد الآن، والتي تنتظر مشاريع أبحاث آثارية وجيوأركيولوجية، سيما وأن لُقىً تم اكتشافها بالمحيط المباشر للواحة، تعتبر مؤشرات واعدة تفيد أن الاستيطان البشري في المنطقة يمتد إلى العصر الآشولي . ويكتسي هذا الموروث بحيه وجماده أهمية بالغة بالنظر إلى القيمة المضافة التي تقدمها للواحة باعتبارها مواردَ تضاف إلى الموارد المحلية التقليدية، ولا سيما في المجالين العلمي والسياحي والتراثي.
خلاصة
يزخر الجرف الصخري ومحيطه بتراث طبيعي ذي قيمة عالية، انطبعت عليه بصمات ثقافة محلية عريقة، قوامها المحافظة على التراث الجمالي وصيانة البيئة بأدنى ما يمكن من التدخلات والتأثيرات، والتي تتم بطرائق منسجمة مع المكونات الصخرية والمائية وما تُؤويه من تنوع حيوي نباتي وحيواني (شكل 3). هكذا استغلت المسالك الطبيعية لمياه العيون وشلالاتها، بمقاربات تقليدية حولتها إلى سواقٍ ساحرة يستمتع الزائر بجمالها ويتأمل هندستها الذكية الموروثة من فترات زمنية غابرة أنجزها عصاميون لم يحملوا صفة "مهندس" بالمعنى الأكاديمي، لكنهم عمليا مهندسون حقيقيون، كما حافظ الإنسان المحلي على بعض المخلفات النباتية، رغم عدم اعتياده استهلاك ثمارها.
شكل 3. المشهد التراثي الحالي (يسار، قبيل تمرير الطريق) في حاجة إلى ترميم على طريقة الأجداد حيث ينسجم انطباع الثقافة فوق الطبيعة (يمين) وليس إلى تخريب بمشاريع عصرية غير موفقة.
يتضح إذن من هذا العرض أن الجرف الصخري ومحيطه، والذي أقحمت فيه طريق "سياحية" بمواصفات غير سياحية، يزخر بتراث بيئي وثقافي لا يقل أهمية عن التراث المعماري للقصور وتراث الهندسة المائية ودرايات الزراعة وتدبير الماء بخصوصيات محلية غنية بالمهارات وناجحة بنجاعتها. وإذ تعتبر المقاربة الشمولية والمندمجة لدراسة المجالات الترابية ضرورية وذات فعالية لفهم تنظيم المجال، فإنها أيضا لا تقل أهمية على مستوى توجيه التهيئة وتخطيط مشاريع التنمية على مقاس الحاضر، دون تغييب الرؤية الاستشرافية، في أفق تحقيق التنمية المستديمة. ومن الواضح إذن أن هذه المواضع القيّمة لازالت لم تكشف عن كل كنوزها، مما يجعل طمس معالمها عملا منافيا للقوانين الوطنية وللمواثيق الدولية ومعاكسا لسبل التنمية ومقارباتها وأهدافها.
وعلى مستوى آخر، ينبغي تسجيل عدم دعوة أي من العلوم الكفيلة بالكشف عن المكونات التراثية للمكان الذي شهد تنزيل الطريق التي زُعم أول الأمر أنها سياحية، وقد تراجع عن منحها هذه الصفة أمام الملأ بعض أشرس الذين دافعوا عن إنجازها. إن أي تدخل في جرف أزرو الذي مرّرت فيه هذه الطريق كان يستدعي تدخلا مسبقا لعدد من العلوم المشار إليها أعلاه وهي والجيولوجيا والجيومرفلوجيا والجيوأركيولوجيا وإيكولوجية المشاهد، قصد تقويم الوضع وتوجيه الدراسات القبلية. لكن للأسف كان التجاهل سيد الموقف، حيث حسمت المقاولاتية والسلطة الأمر دون العلم، لتمسخ المشاهد ويبخس التراث البيئي الطبيعي والثقافي على السواء، بمشروع لم يحقق أهدافه المعلنة ولن يحققها.