المتوكل الساحلي: التضحية بالغالي والرخيص… وبالأضحية

المتوكل الساحلي: التضحية بالغالي والرخيص… وبالأضحية المصطفى المتوكل الساحلي
التضحية الحقة تكون بالوقت وبالنفس وبالمال من أجل الناس والمبادئ والأفكار والأهداف دون مقابل أو سعي نحو أي تعويض معنوي أو نفعي، وتكون من أجل ضمان البقاء بالحد الأدنى من الامكانيات، وجمعها التضحيات. (الأضْحِيَّة لغةً: اسمٌ لِمَا يُضَحَّى به، أي: يُذبَحُ أيَّامَ عيدِ الأضحى، وجمعُها: الأَضاحِيُّ).
إن الكادحين والفقراء والطبقات الشعبية، أي الغالبية العظمى من الناس، يضحون أكثر من غيرهم بتفاوت بين مستويات التضحية فيما بينهم. فحياتهم وأوضاعهم المادية والمعيشية أكثر عرضة للضربات والابتلاءات. فالجفاف والفيضانات يسلبهم أجزاء من رزقهم المحدود الذي يسد بالكاد رمق العيش، والاحتكار وارتفاع الأسعار وضعف الأجور وقلة فرص الشغل وهشاشة موارد الرزق الموسمية والعارضة يجعلهم يضحون ويجددون تضحياتهم ويلائمون أحوالهم لتحمل المزيد من التضحية بالإكراه بالتخلي عن العديد من حاجياتهم الضرورية لفائدة الابقاء على الأدنى الذي لا أدنى بعده سوى العدم والفقر المدقع الشديد التأثير والإذلال… كما أن السياسات الحكومية التي تبحث عن توازنات لاختلالاتها التخطيطية والتدبيرية تطال إجراءاتها بشكل مباشر وغير مباشر وبشكل مؤلم أحوال وقدرات الجماهير الشعبية.
إن الابتلاءات التي تأتي من السماء كما يعبر العامة يتعاملون معها بالتسليم والرضى والصبر الجميل ابتغاء تعويض من الله في الدنيا أو لادخاره حتى يوم الحساب. أما الضربات التي تأتيهم من السياسات الاجتماعية والمضاربات الاقتصادية والتوجهات الجشعة للبورجوازيات التي تسعى لتوسيع ثرواتها ومدخراتها ولرفع رساميلها، والأزمات الواقعة والمفتعلة عالميا، فيتعامل معها الكادحون والكادحات بتوكيل الأمر إلى الله بـ «الْحَسْبَلَةْ» و»الْحَوْقَلَةْ»، واللجوء إلى الاستنكار والاحتجاج وخوض نضالات للحد من الأضرار والضربات التي تفرغ الجيوب وتفقر الأسر. وكانت القوى الوطنية السياسية ومعها الحقوقية والمتشبعون بالقيم الإنسانية النبيلة يقومون بالتضحية بأنفسهم وأموالهم ووقتهم وراحتهم من أجل الطبقات الشعبية بالترافع عنهم وتأطيرهم والدفاع عنهم نضاليا وأمام المؤسسات والمحاكم إن حصلت مواجهات وقمع.
إن الكادحين والكادحات يقدمون باستمرار تضحيات، حيث يتنازلون ويتخلون عن الكثير من حاجاتهم لمن هم أكثر منهم فقرا وخصاصا ويتنافسون أيضا في مجالات الإحسان وبناء المساجد وإصلاح الطرق والتطوع وشراء الأضحية للأسرة بمناسبة عيد الاضحى رغم معاناتهم الشديدة، إنهم من قال فيهم تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، سورة الحشر. وما يعنينا في هذا السياق أننا نحتاج إلى عقلنة وتنظيم تضحياتنا العديدة التي يرتجلها كل فرد أو أسرة وفق تصورهم وهواهم وذلك كي يكون لها تأثير على الواقع العمومي وعلى مراكز القرار، وذلك بـ:
l التضحية بعدم شراء المواد والحاجيات التي ترتفع أثمنتها وتعويضها بما هو أقل ثمنا منها أو التخلي عنها.
l ترتيب الأولويات التي تضمن بعض التوازن في إطار تدبير الندرة وتقليص آثار ونتائج الفقر.
l ضرورة قيام القوى الوطنية الحية بمهامها الأصيلة في الدفاع عن الكادحين والكادحات والترافع والتأطير الاجتماعي والتضحية ببعض الوقت لقيام بالصيغ الحقوقية الملائمة للمرحلة لإثارة انتباه السلطات والحكومة وتقديم البدائل والحلول الضامنة للمعالجة المعتمدة على عدالة اقتصادية واجتماعية وحقوقية.
على أصحاب الثروات والرساميل أن يساهموا ويضحوا هم أيضا بشكل كبير يقارب تضحيات الشعب بما يخفف من هول أثار الفقر والخصاص والأزمات على الناس.
وعلى الحكومة أن تضحي بأولياتها الموغلة في الليبرالية والفكر الرأسمالي وتميل ميلا عادلا إلى العدالة الاقتصادية والاجتماعية المتشبعين بالإنسانية والكرامة.
دينيا على القيمين والمعنيين بالشأن الديني أن يتقوا لله في فقراء وكادحي الأمة، فشروحاتهم وتوضيحاتهم التي تهيئ وترشد وتوعي الناس لعيد الأضحى والتي تكون غالبا موضوعا لبعض الخطب بالمساجد وحتى أمام المصلين يوم عيد الأضحى لا تراعي الأحوال فتقدم لهم نصائح يستحيل تطبيقها وقد تكون محرجة مثل تحديد مواصفات الأضحية، ومن الدعوة إلى لبس الجديد والتزين والتعطر وتوزيع الهدايا، والحال أن الجالسين القرفصاء قدام إمامهم يفترشون الحصير والتراب، غالبيتهم العظيمة إلا قلة، لا تكفيهم أجرتهم ومداخيلهم لا تستجيب للمتطلبات الدنيا لعيشهم اليومي، وهنا يجوز القول بوجوب التضحية بعدم شراء الأضحية والاكتفاء إن كان ذلك ممكنا بشراء نصف أو ربع جدي أو خروف لإعداد وجبة لابأس بها يوم العيد تخالف وجبات السنة كلها التي لا لحم في غالب أيامها.
إن ديننا الحنيف السمح فيه من التوسعة والرحمة الكثير حيث «لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا» في كل شيء في الأركان ناهيك عن النوافل والسنن والمستحبات والمندوبات. فقد ثبت عن أبي بكر وعمر أنهما كانا أحياناً لا يضحيان؛ لئلا يظن الناس أنها واجبة. وبأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن أمته، وبقوله «ثلاث هن علي فرائض ولكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الضحى» أخرجه الحاكم. وفي إحدى الروايتين عن الإمام مالك أنها واجبة في حال القدرة.
"عن أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ للهِ عنها، قالت: قال رسولُ للهِ صلَّى للهِ عليه وسلَّم: (إذا دخَلَت العَشْرُ، وأراد أحَدُكم أن يضَحِّيَ؛ فلا يَمَسَّ مِن شَعَرِه وبَشَرِه شيئًا)، وَجْهُ الدَّلالةِ: أنَّه عَلَّقَ الأضْحِيَّةَ بالإرادةِ، والواجِبُ لا يُعلَّقُ بالإرادةِ".
قال عِكْرَمةُ: (كان ابنُ عبَّاسٍ يبعَثُني يومَ الأضحى بدرهمينِ أشتري له لَحْمًا، ويقول: مَن لَقِيتَ فقل: هذه أضْحِيَّةُ ابنِ عبَّاس).
فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، ولنا أن نقول آن الأوان لننصف الشعب الكادح ونرفع عنه ثقل الفقر والخصاص والغلاء والأزمات، إنه ضحى ويضحي بما تبقى له مما يملك.