الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

أحمد الرياضي: كورونا وسؤال العودة إلى مرحلة المرآة

أحمد الرياضي: كورونا وسؤال العودة إلى مرحلة المرآة أحمد الرياضي
إن البحث في مفهوم مرحلة المرآة، يحيلنا إلى البحث في التحليل النفسي واللسانيات والأنتروبولوجيا والإيتولوجيا، مما يستوجب العودة إلى كتابات سيجموند فرويد وجاك لاكان ومارغريت ميد وفرديناند دي سوسير، من أجل البحث في دلالات ومعنى المفهوم في ثقافات الشعوب في ظل الزمن الكوروني، وذلك لتوضيح وتفسير مرحلة مهمة من مراحل النمو النفسي على مستوى البنية والتنظيم النفسي للفرد، لكن السؤال المركزي الذي قد يطرح:
ما العلاقة بين مرحلة المرآة والتحولات التي يشهدها المجتمع الكوني؟
إن محاولة فك الارتباط بين مرحلة المرآة والمجتمع الكوني-  من أجل رسم خريطة لقراءة الدلالات - تنتج أسئلة أخرى تتجسد في شكل معادلات متشابكة ، كأنها تبحث في الدلالات المعرفية بين الفرد كبنية نفسية والتكوين النفسي لأفراد المجتمعات، وذلك لتشريح تلك الصورة المنكسرة للذات عند دول تتبنى الحداثة، هذه الدول التي أدركت - في ظل الوضع المعيش - مؤخرا تلك الانكسارات بين الصورة والجسد، بين التمثل من خلال الصورة ، وبين الفعل من خلال الوجود الاجتماعي ، بين صورة تظهر في المرآة  وبين الصورة المنكسرة التي عرت عنها كورونا.
في هذا السياق، هل يمكن القول إن الإدراك المرتبط بالصورة على مستوى المرآة يشكل إدراكا عقلانيا /حقيقيا، أم هو إشباع لصورة متخيلة لدى الكثير من دول المجتمع الكوني؟ إذا كان الأمر كذلك، ألا يمكن التأكيد -بكثير من الحذر العلمي- على أن الأمر يرتبط بسؤال العودة إلى مرحلة المرآة، حتى نبني صورة معقلنة ونتفادى العديد من الانزلاقات و المآسي على مستوى الاضطرابات النفسية، الأزمات الإجتماعية والاهتزازات السياسية في الدول والمجتمعات، التي لم تتخلص بعد من هذا الإحساس المرتبط بعدم الاعتراف بالنكوص إلى تلك المرحلة من أجل إعادة التركيب والبناء على مستوى الإنسان والطبيعة .
هل هذا المجتمع الكوني له رغبة العودة إلى معرفة الواقع المعيش، أم أن وهم الحداثة يثير كل العاشقين لركوب السفينة دون علم بالذي يقودها، وكأنه يردد نحن والجحيم. إن هذا يطرح إشكالا كبيرا يتمحور حول رهانات المجتمع الكوني في ظل كورونا؟
بدون علم استيقظت كورونا لتجسد لنا الجحيم الذي يتباهي به الآخرون في وجه الآخرين، وكأنها هي من يحكم الكرة الأرضية الآن ، حيث اجتازت كل المراحل دون الحاجة إلى الآخر ، ولم تتوهم صورة الجسد، و إغراءات المرآة،  فقط دفعت بهم / بالكل إلى عيادات من أجل تحطيم وهم الصورة، و تلقي العلاج من صدمة النكوص، والتخلص من جنون لا يستوعب.
في مرحلة المرآة حسب لاكان وفرويد، وقبل ذلك هنري فالون، يحاول الطفل/ الفرد أن يبحث عن صورته من خلال محاولة التعرف على ذاته، انطلاقا من الوقوف أمام المرآة، بمعنى محاولة إدراك نفسه عبر الصورة، أي أن التعرف على انعكاس الصورة في المرآة يكون قبل نهاية السنة الأولى، وقد يكون بعدها بقليل بناء على اختلاف الاتجاهات في هذا الإطار، حيث يكتشف الفرد /الغرب العلاقة بين الصورة والجسد وقد يساهم هذا في الشعور بالهوية الجنسية (ذكرا، أنثى) أو بالتراتبية الاجتماعية (قوي، ضعيف). ولو أن هناك مرآة تسبق مرحلة المرآة، وهي تلك التي تتكون من خلال النظرة المتبادلة بين عين الطفل ووجه الأم، حيث ينعكس وجه الأم بوصفه مرآة يرى فيها الطفل ذاته، ويمكنه من خلالها أن يطل بها على العالم الخارجي(1).
 ومنه فإن صورة الجسد تتكون من خلال  الإدراكات حول هيئة أو مظهر  هذا الجسد التي تعطي إحساسا معينا مصحوبا بنسبة  من  القلق نحوه ، وهو الأمر الذي يستوجب تفسيرا حتى لا يتولد صراع داخلي  يصاحب  هذه الصورة مدى الحياة، ذلك أن هذا الإحساس بالقلق نحو الاخر / الغرب لم يستدخل بشكل مبني، بل بشكل يغمره الإنبهار ، وكأننا أمام فوتوشوب للجسد الغربي ، عملت الأجهزة الإلكترونية على استخدام تكنولوجيا متطورة على الحواسيب لتظهره في صورة خالية من الإنكسارات، ومن سلامة اللغة حول هذا الكائن الذي يمارس الاستعلاء النرجسي ، وكأن الأدوار قائمة على رسم جسد جذاب، حتى لاترسم علامات اللغة جرحا على مسارات المرايا المنكسرة، و يضيع المعنى من قراءة تلك الصور المنعكسة على المرآة، وهو ما لم ينتبه إليه زعماء الخطابات في زمن كورونا،حيث تنتشر في كل الأمكنة ، وكأن اللغة غير مبنية ، وهذا يتنافى مع علم اللسانيات حول بناء اللغة، وأيضا الآليات التي تنتج الخطاب ولو كان لا شعوريا ، ذلك أن هذا الأخير مبني مثل اللغة كما يصرح  بذلك جاك لاكان، حيث يتشكل اللاشعور وفقاً لبنية اللغة، وتكون الذات هى ما يصدر عن الكائن الحي بفعل اللغة(2). 
بناء على هذا، ألا يمكن القول إن كورونا غيرت كل شيء، وجعلتنا نسقط حالة المجتمع الكوني على ما يعيشه الطفل بعد الولادة، حيث تطرح خلال فترات النمو النفسي أسئلة عميقة على هذا الطفل، إذ من خلالها يبدأ التكوين والبناء النفسي لديه، فهي بمثابة لحظة اهتزاز قد تبني أو تهدم، الشيء الذي يطرح جدلية البناء والتدمير، كما أشار إلى ذلك جاك لاكان في إحدى أوراقه المعنونة بـ "تخريب الموضوع وجدلية الرغبة".
إن مفهوم المرآة هنا - في الكثير من الأحيان - سيرتدي الإستعارة من مفهو م الذات إلى مفهوم الدولة،حيث ستنقلب الآية من طفل يبحث عن  تكوين صورة ، إلى دول تبحث عن ولادة،  ولادة أسئلة ترتبط بالتفكير  في آليات ضبط داخلي / خارجي من أجل تدبير أزمات تولدها كورونا في الزمن الكوروني، ولنا في سراب الضباب ومنعرجات سام الآية/ اللوحة التي تفسر لحظة الرعب حين انهارت العجوز.
أنظمة صحية انهارت في دول عظمى حسب تصنيفات وهمية على الأقل في زمن كورونا، إذ كان الجميع - ولو من خلال الصورة-  على قدر من "اليقين"، يرى أنها تسطيع -هكذا في التخييل الشعبي- مواجهة الأزمات.
إننا اليوم نرى من خلال الوجود الفعلي تفاصيل صورة الجسد/ الدول العظمى، التى أُدْرِكَت خطأ - مما يجعل سؤال الإدراك يظل مطروحا في علم النفس الاجتماعي/ المعرفي - من خلال آليات متعددة رسمت وهم الصورة والمعنى حول الآخر الذي يعيش- هنا والآن- فقدان العلاقة بالموضوع.
ذلك أن قلق الانفصال أو فقدان العلاقة بالموضوع، كما هو الأمر في الدراسات والأبحاث النفسية- خصوصا التحليل النفسي- يتجسد في زمن كورونا في :  الخوف من فقدان الدول العظمى  السيطرة على العالم والدخول في مرحلة الحرمان ، بمعنى ليس الحرمان من التواصل الوجداني، لكن الحرمان من الاستلاب الاقتصادي والسياسي والفكري الذي تفرضه على الكثير من المجتمعات، فقدان السيطرة على منابع الاقتصاد وأماكن الاستثمار . ذلك أن الانفصال في هذه المرحلة يولد العديد من الميول التدميرية (أهمية العودة هنا إلى مسارات النمو كما حددتها آنا فرويد: المرحلة الثالثة: الثنائية= التعلق والتعذيب) لدى الطفل / الدول العظمى. وبالتالي الدخول في دوامة الإنكار كآلية دفاعية من أجل القدف بالمسؤولية إلى الآخر، في محاولة لاسترجاع وهم الصورة. أما راهنية هذه الصورة فتلك حكاية أخرى.
 إن فيروس كورونا أربك العلاقة بين الذات والآخر، بين فقدان العلاقة (الدول) بالموضوع (الثدي = منابيع الاقتصاد والاستثمار)، مما يجعل سؤال الرغبة والتخريب حاضرا ضدا في أخلاقيات الحضارة.
 إننا هنا من خلال الأزمة والإرتباك في المجتمع الكوني، قد نطرح سؤال الطبيعة والثقافة على مستوى تكوين وانتقال المجتمعات، حيث يشير "كلود ليفي شتراوس" إلى أنه: إذا كان من الجائز أن نعتقد أن ظهور المجتمع قد ترافق مع ثلاثة انتقالات من الطبيعة إلى الثقافة، ومن الشعور إلى المعرفة ومن الحيوانية إلى الإنسانية. فإن ذلك لا يمكن أن يتم دون اجتياز الإنسان لهذه العقبات الثلاث المتناقضة إن لم تكن هى متناقضة بحد ذاتها، فتكون فى الوقت نفسه طبيعية وثقافية، عاطفية وعقلانية، حيوانية وبشرية، ولا تحتاج من أجل الانتقال من صعيد إلى صعيد آخر، إلا أن تصبح واعية بذاتها.(3)، إذ يرى أ الثقافة نفسها تجلياً من تجليات  الطبيعة (4). مما يستوجب على هذه المجتمعات تدبير الوضع المأساوي - على مستوى الإنسان والاقتصاد - بالكثير من العقلانية بدل التملص من مواجهة فيروس يفترس الجسد، والدخول في لعبة الجدل الذي لا ينفع في ظل العري الكوروني.
 ذلك أن الانتقال من الطبيعة إلى الحضارة (الثقافة) لا يتم دون أزمة عنيفة.  إذ يجب خنق النزوة الحيوانية البدائية عند الإنسان، ولهذا السبب لا يتم ظهور الحضارة إلا من خلال الرغبة في الجريمة في شكل رغبات طبيعة لاواعية تستمر عند كل البشر، مهما تكن المجتمعات التى ينتمون إليها رغبة فى بقاء الإنسان عبر ذاته (5) .
إن في العودة إلى مرحلة المرآة، دعوة إلى إعادة بناء الذات لدى المجتمع الكوني في ظل الدرس الكوروني، إنطلاقا من الفعل الصريح للتعايش مع الفعل الواقعي، من أجل حماية الإنسان من الطبيعة وتنظيم العلاقات الاجتماعية (6)، بدل المسارات التي تنتج التخييل والترميز رغبة في حب الزعامة الواهمة التي لم تستطع المقاومة: مقاومة فيروس لا يرى، لكنه يمارس الوجود بالقوة والفعل بعيدا عن المرايا المنكسرة .

ذ:أحمد الرياضي            
أستاذ علم النفس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، عين الشق، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء
أخصائي نفساني
 

 المراجع الآتية:
1- دونالد وينيكوت (1974 ) :  دور مرآة الأم والأسرة فى نمو الطفل، (فى)  أندريه وهينال وآخرين (تحرير) النرجسية – حب الذات، ترجمة: وجيه أسعد( 1979 )، منشورات وزارة الثقافة، دمشق.
2-  عبد الله عسكر( 2000 )  : مدخل إلى التحليل النفسى اللاكاني، الأنجلو المصرية، القاهرة.ص 51-52
3- كلود ليفى شتراوس ( 1973):  الأناسة (الأنثروبولوجيا البنائية)، ترجمة: حسن قبيسى 1990، مركز الإنماء القومى، بيروت ص : 36. ص: 271
4- عبد الوهاب جعفر ) 1989 ) :  البنيوية فى الأنثروبولوجيا (وموقف سارتر منها) ، دارالمعارف، القاهرة،إصدار رقم ، 76،ص 147
5- روجيه باستيد ( 1988): السوسيولوجيا والتحليل النفسى، ترجمة: وجيه البعينى،  دار الحداثة ، بيروت. ص :203
6- عبد الرزاق الدواي (2013): في الثقافة والخطاب عن حرب الحضارات: حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة، المرطز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة ، قطر ،ص:  26