القصة لم تبدأ اليوم، ولن تبدأ صباح الغد. ثلاثون سنة قضاها البروفيسور المغربي عبد الحق أنواسي في إسراج العِلْم، وتقوية تلك الذراع المختبرية الخضراء، من أجل إخصاب أرحام الإبل، وملء الساحات عن آخرها بالبخبخة والرغاء.
لم يكن البروفسور أنواسي، خريج معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط، يهتدي بنجمة صغيرة في الأفق، كما كان يفعل الشعراء الهائمون، ليصل إلى إشعال نبض يتجدد بوثوق في أرحام النوق، رحما رحما، أكثر من مرة في السنة، وتحويل "مركز سويحان" في جنوب العاصمة أبوظبي (تأسس في العام 1989) إلى "ثروة حيوانية" تضيء ليل الصحراء. لم تكن المهمَّة سهلة، ولم يأت النداء من الإمارات كما اتفق، بل كان مسبوقا بمسار علمي لامع مثل "الثريات المضيئة الجائعة". ففي العام 1986، كان البروفسور أستاذا مساعدا في معهد الحسن الثاني الذي تخرج منه في العام 1983 . غير أن حسه العلمي العالي أوعز له بأن "مدرج المعهد" ليس هو المكان المناسب للبحث عن حلمه الذي يرفع ذراعيه عاليا؛ فكان الرحيل إلى فرنسا للحصول على شهادة الدكتوراه من في جامعة باريس 6. هناك كانت المنافسة في ذروتها مع 22 طبيباً في مختلف التخصصات البشرية والبيطرية والصيدلانية، وتم قبول 3 أطباء فقط، من بينهم أنواسي، على ضوء الأبحاث التي قدموها. وبالفعل تمكن أنواسي، بعد 4 سنوات من منازلة التجارب العلمية، من الحصول على الدكتوراه في دراسة حول هرمونات الإبل.
يحكي البروفسور أنواسي لجريدة "أنفاس بريس" عن هذه المرحلة قائلا: "في فترة دراسة الدكتوراه جمعت ألف مخ جمل من مسالخ مدينة العيون بالصحراء المغربية التي كانت معروفة باحتوائها لعدد هائل من الجمال. مكثت هنالك شهرين وكان موعدي يوميا على الساعة الرابعة صباحا في المسلخ لجمع الغدد الصنوبرية لاستخلاص هرمون التكاثر التي حملتها معي إلى باريس. في ذلك الوقت لم تكن تقنية استخلاص الهرمونات من المخ متوفرة في المغرب. قمنا بنشر بعض البحوث في جرائد علمية، ومنها بحث عن الهرمونات في الإبل عام 1988 لإكثارها في التخصيب، وهو البحث الذي خرجنا فيه بنتائج مهمة. وحين اطلع شخص إماراتي على هذه المنشورات العلمية، استقل الطائرة وحضر لباريس واستدعاني لزيارة بلاده للقيام بدراسات حول الإبل".
صيادو الكفاءات الإماراتيون كانوا يراقبون عن كثب ذلك الدماغ المغربي الاستثنائي، وما إن انتزع باقتدار شهادته العلمية الرفيعة، حتى سارعوا إلى الاتصال به ولم تتقادم بعد الفرحة في قلبه، ليسلموه إدارة مركز البحوث البيطرية في الإمارات، الذي يعتبر أول مركز في العالم ينتج جِمال أنابيب وأجنة مستنسخة ، وأيضا أول مختبر يستخدم تقنية زرع الأجنة، وأول مختبر في العالم ينتج أكثر من 600 مولود جمل سنويا.
في سنة 1990، حل الخبير المغربي بالإمارات، وكانت فكرة المسؤولين هناك هي تحسين سلالات الإبل عن طريق البيوتكنولوجيا.
حين تسلَّم البروفسور أنواسي دفة قيادة المجموعة العلمية المتقدمة في سويحان ( 80 كلم تقريبا عن أبوظبي)، شرع في تطبيق تقنية زرع الأجنة التي تمكن الناقة من ولادة عدة جمال في سنة واحدة، قبل أن ينتقل إلى تطبيق التقنيات الأخرى المعروفة في ميدان التناسل (جمال الأنابيب- الأجنة المستنسخة- تقنيةٍ icsi عن طريق حقن حيوان منوي واحد داخل البويضة غير الملقحة..). يقول البروفسور في لقائه مع "أنفاس بريس"، بأن "الرحلة لم تكن سهلة لشح الأبحاث حول الإبل وعدم تجاوب الجمل مع كل ما نشر حول الحيوانات الأخرى. فبعد ثلاث سنوات من العمل المتواصل، تم بعون الله الحصول على أول المواليد عن طريق الأجنة، ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن استطاع المركز إنتاج 600 مولود سنويا بعدما لم يكن يتجاوز 21 مولودا في العام 2009".
في العام 2008، نشرت (جريدة علمية دولية معترف بها عالميا)، خبر أول جنين إبل مستنسخ في مركز الأبحاث بأبو ظبي ونوَّهت بالفريق البحثي الذي يشرف عليه البروفسور الأنواسي وهو فريق مغربي خالص يضم بياطرة وتقنيين. ومنذ ذلك الحين، تم استنساخ جمال ذات جودة عالية ومعروفة في ميادين السباق، مثل الإبل السودانية: (البشاري، العنافي، الرشايدي، الكباشي)، أو في المزاينة، وهذا هو سر ارتفاع سعر الجمال، لارتباطها بجوائز قيمة تصل أحيانا الى أكثر مائة مليون سنتيم مغربي. فإذا كان للإبل أسماء صريحة وأحياناً كنايات، مثل الناقة والحنّانة والرزّامة وجاليقة وجقلة وشرمة ولباعة وأم زور.. إلخ، فإن الرهان الذي يرفعه علماء المجموعة العلمية المتقدمة هو، أولا: تطوير الأبحاث الجينية لتطوير بروفيلات النوق والبعير، وثانيا: حماية سلالات معينة أصيلة من الإبل من الانقراض، وعلى رأسها ناقة السباق "طيارة" التي لم تخسر أي سباق شاركت فيه، وأيضا ناقة السباق "سمحة" التي زرعت أجنتها في نوق أخرى، فضلا عن سلامة نجاح التحكم في التقنيات المستعملة الجديدة.
لا يتوقف اهتمام البروفسور عبد الحق أنواسي عند ما يتيحه علم التخصيب واستنساخ الأجنة، بل إن مناعة الجمل تستأثر بجزء هائل من انشغاله العلمي، فضلا عن ظاهرة علمية أخرى تختص بها الجمال وتشغل بال أنواسي، وهي الخاصة بعملية نقل الأعضاء، حيث إن أي عضو ينقل من أي ناقة لأخرى يعمل تلقائياً، وكأنه جزء منسجم من جسمها، بعكس ما قد يحدث عند الكائنات الأخرى، حيث إن الجسم يرفض العضو الجديد المزروع فيه في بعض الأحيان؛ وهو ما يعكف على تحليله فريق البروفسور، من أجل تحقيق طفرة علمية غير مسبوقة في المجال الطبي.
يجلس البروفسور، كما يخبرنا بنفسه، على الكمبيوتر ساعتين كل صباح، من أجل متابعة آخر مستجدات علم زرع الأجنة والتلقيح الصناعي، وأيضا ليبقى على تواصل دائم مع كل العلماء في مختلف دول العالم، لتبادل المعلومات عن آخر ما توصل إليه العلم، وخاصة في مجال التلقيح الصناعي الذي ما زال يحتاج إلى اهتمام كبير.