ما أن تم تنصيب الحكومة الحالية، حتى تم التسويق لمفهوم “الدولة الاجتماعية” وهو مفهوم خادع، بحكم أن معظم المغاربة يعلمون أننا نعيش في كنف “دولة متوحشة” وليست دولة اجتماعية”. بالنظر إلى أن الدولة تحتضن أصحاب الرأسمال المتوحشين الذين يقتاتون بالأساس من الريع وليس من المغامرة وركوب المخاطر.
مشكلة المغرب أنه ظل طوال عقود يسمن أشخاصا وعائلات بعينيها بشكل لم يسمح بإفراز مقاولات مواطنة ومتجذرة في تربة المجتمع المغربي وتتطلع إلى جر التراب الوطني إلى الأعلى.
خذوا نموذج كوريا الجنوبية أو ماليزيا أو سنغافورة أو تايوان، فرغم أن هذه الدول عرفت أنظمة ارتكزت في البداية على أسس ديكتاتورية، إلا أنها تمكنت من خلق رأسمال وطني، واحتضنته الدولة وزودته بالدعم والمواكبة ليقود التطور الصناعي والعلمي بهذه البلدان.
وهاهي الدول الآسيوية تحصد اليوم ما زرعته، إذ تتوفر كوريا الجنوبية اليوم على مقاولات قوية تجر البلاد إلى الأعلى وتتحكم في صناعات دقيقة، جعلت كوريا الجنوبية تتربع على العرش الاقتصادي عالميا. (نفس الشيء يصدق على تايوان وسنغافورة وماليزيا).
في المغرب، وبعد مرور 66 سنة على الاستقلال لم يحصد المغرب سوى طبقة ريعية تضم أشخاصا وعائلات كل واحدة تحتكر قطاعا ما: هذه ترضع في القطاع البنكي وثانية تستحوذ على القطاع الفلاحي وثالثة تتحكم في القطاع العقاري ورابعة تهيمن على استيراد السيارات وخامسة في المحروقات وسادسة في المقالع والمناجم وسابعة تبسط سيطرتها في الجانب المصرفي وثامنة في الصيد البحري.. وهكذا دواليك.
ولما أراد المغرب تملك نموذجه الصناعي والاقتصادي المستقل، لم يجد من يجر العربة، بل احتمى بالرأسمال الأجنبي لقيادة الطفرة الاقتصادية (بوجو، ستروين، بوينغ وغيرها). والأفظع أن المغرب وجد نفسه “محزم بالشيخات” حتى في قطاع المناولة، حيث لما أرادت هذه المجموعات الأجنبية الكبيرة أن تلجأ إلى المناولة، لم تعثر على شركات مغربية بارزة، وتم استقدام مقاولات أجنبية للمناولة، استوطنت بملوسة بطنجة، وبالقنيطرة والنواصر.
نعم، قد ينهض قائل مدعيا أن المغرب يوجد اليوم في “راحة” و”مرتاح البال”! لكن هذا الادعاء مردود عليه بحكم أن هناك سؤال حارق تتهرب منه الدولة: إلى متى ستدوم هذه الوضعية؟
هذا السؤال يجد مشروعيته في أمثلة متعددة، لكن حسبنا هنا التوقف عند مثال واحد فقط، ألا وهو “تبني التغطية الصحية وتعميمها”. فهذا المشروع النبيل يحتاج لتمويل ضخم ومستدام، لكن المشكل يتجلى في أن المغرب لحد الآن لا ينتج ثروة تذكر، بل يقوم فقط بترحيل الثروات والمساهمات، دون أن تتساءل السلطات المركزية: إلى متى ستبقى نعتمد على التبرعات والعمليات الإحسانية؟
هذا الوضع ازداد حدة عقب انتخابات شتنبر 2021 التي أفرزت أغلبية تتحكم في كل المؤسسات (حكومة وبرلمان وجهات وجماعات ترابية وغرف مهنية)، وهي حكومة تخدم الرأسمال المتوحش أكثر مما ستخدم أغلبية المغاربة، مما يجعل من المحق التساؤل: من سيحمي ظهر المجتمع من السوط والجلد؟ من سيسمع (بضم الياء) صوت المجتمع والمقهورين؟ من سيلعب دور الرادع للتغول والتوحش؟
فالمثل المغربي يقول: “النهار الزين كيبان من صباحو”، وهاهي المؤشرات المقلقة لبداية الحكومة والبرلمان والجماعات الترابية تنبئ بأن القادم سيكون أسوأ من 100 يوم التي انصرمت (قانون مالية ظالم، بؤس في التشريع، بطء في إخراج أوراش التنمية بالمدن، شلل في الجهات، سبات في الغرف المهنية). مما يبرز الحاجة الملحة إلى استنهاض همم المعارضة: المعارضة القوية والمواطنة والمسكونة بتجويد عيش المغاربة، وليس المعارضة الباهتة والمتواطئة مع الرأسمال والتغول.
الفرصة مواتية اليوم أمام الاتحاديين للتصالح مع القوات الشعبية ولقيادة معارضة لوقف تسونامي التوحش. وهذا يقتضي من حزب الاتحاد الاشتراكي (وقد عقد مؤتمره وانتخب قيادته)، أن يجدد خطابه ويجدد نخبه ليضمن الحضور الصادق في المشهد السياسي.
فالجيل الأول من الاتحاديين الذي ناضل لتقعيد أسس دولة الحق والقانون شاخ، والجيل الثاني الذي أفرزه التناوب انشغل بتوزيع المكافآت وكعكة المناصب. إن الاتحاد الاشتراكي، وهو يستعد لاستكمال هيكلة أجهزته القيادية قبل متم مارس 2022، عليه البحث عن جيل آخر مهووس بسؤال بناء الدولة الاجتماعية على أنقاض الدولة المتوحشة.