لم يكد العالم يعود إلى وضعه الطبيعي أو "شبه الطبيعي" على الأصح، ولم تكد تسترجع الكثير من القطاعات خاصة المرتبطة بالطيران والسياحة والفن، جانبا من عافيتها وأنشطتها التي انحنت عنوة أمام الجائحة المرعبة، حتى برز العنيد "أوميكرون"، فأحدث حالة من الارتباك والترقب والخوف والقلق والتوجس والحيطة والحذر، تشبه ما عاناه العالم خلال الأشهر الأولى من الجائحة الوبائية التي لازالت مصرة على المزيد من الإتعاب والإرباك، وسط زحمة من الأسئلة المشروعة بخصوص هذه الأزمة الوبائية التي "استعصت" على العالم، بكل ما وصل إليه من ريادة طبية وعلمية وتكنولوجية، من حيث نشأتها وظروف وملابسات اجتياحها لمشارق الأرض ومغاربها، وتزداد الأسئلة قلقا وتعقيدا بعد أن دخل العالم في مسلسل من المتحورات، تبدو حلقاته كسفينة تتقادفها أمواج البحر، لا أحد بمقدوره التنبؤ بمستقرها ومنتهاها.
قوة "أوميكرون" التي قيل أنها تكمن في سرعة انتقاله وانتشاره، فرضت على الكثير من البلدان التشديد من القيود بما فيها منع احتفالات رأس السنة الميلادية وإغلاق المجالات الجوية، في معركة أشبه بأفلام "هيتشكوك"، نجهل فيها الخطط والتكتيكات وأساليب المواجهة والتصدي، عدا ما بات يسجله عداد الإصابات المؤكدة عبر العالم من ارتفاع مثير للخـوف والقلق والتوجس، وكل المعطيات تشير إلى أن العالم بصدد الدخول إن لم نقل قد دخل فعلا في موجة وبائية جديدة، يحركها "من وراء حجاب" المتحور الجديد "أوميكرون" الذي بات بدون منازع هاجسا للدول والحكومات، وانشغالا متزايدا للعلماء ومسؤولي الصحة، وقلقا ما بعده قلق، وتوجسا ما بعده توجس، بالنسبة للكثير من القطاعات، التي ستزداد أوضاعها سوء وتعقيدا في ظل متحور فتاك من المتوقع أن يتسبب في المزيد من الإصابات المؤكدة عبر العالم حسب تحذيرات منظمة الصحة العالمية.
موجة كورنا أو موجة "أوميكرون"، سريعة الانتشار وقادرة على اجتياح مختلف الفئات العمرية بما فيها الملايين من الأطفال عبر العالم، وهذا الوضع المقلق، يضع الكثير من المنظومات الصحية عبر العالم على محك حقيقي بعد أن تنفست الصعداء في ظل تراجع المؤشرات الوبائية خلال الأشهر الأخيرة، وبل سيضع هذه المنظومات الصحية في حالة من الضغط والاستنفار، وإذا استحضرنا أن عدد الإصابات في بعض بلدان الجوار الأوربي باتت تتجاوز المائة ألف إصابة مؤكدة يوميا، فهذا معناه أن الصورة الوبائية للعالم، عادت من جديد إلى حالة من الغموض والارتباك والتوجس والحيطة والحذر، بكل ما لذلك من تبعات على الاقتصاد العالمي وعلى العلاقات الدولية في ظل انشغال الدول مجتمعة على حماية صحتها العامة في إطار ما هو متاح من الإمكانيات والوسائل.
"أوميكرون" هو وجه آخر من أوجه جائحة عالمية دخلت التاريخ الإنساني من أبوابه الواسعة، يبقى التاريخ وحده، الكفيل بإظهار حقائقها إلى العلن، وبين فوهات مدافع الحقيقة والشك واليقين والمؤامرة، تبقى الجائحة ترخي بظلالها على العالم، ويبقى معها الإمبراطور "أوميكرون" شخصية السنة الراحلة بامتياز، بل وسيكون ذاك الكائن المجهري الذي سيسرق كل النجومية في السنة الجديدة ما لم ينسحب أو يتراجع إلى الخلف، ليترك المجال مفتوحا كالعادة أمام متحور جديد، في إطار متاهات وبائية، باتت فيها حركاتنا وسكناتنا تحت رحمة ما يشبه العصابة، التي يقودها قطاع طرق من الفيروسات، تتناوب علينا للعبث بحياتنا وصحتنا وأنماط عيشنا، وإدخالنا بشكل قسري في حالة من الخوف والقلق والتردد والتوجس، معلقين الآمال العريضة في أن تكون جرعات التطعيم، سبيل خلاصنا وتحررنا، وسط زحمة من الدعوات للخالق جل علاه، في أن يرفـع عنا الوباء الكاسح ..
الإمبراطور "أوميكرون" قوي ومتجبر، لكنه عادل لايميز بين القوي والضعيف ولابين المتعجرف والمتواضع ولا بين الثراء الفاحش والفقر المدقع ولا حتى بين الأبيض والأسود والأصفر، يضرب ويتعب ويربك ويفتك بدون تمييز أو محاباة أو عنصرية أو كراهية أو إقصـاء، وما أحوج عالم اليوم إلى لغة "العدالة" ليس فقط في "الجرعات"، ولكن أيضا في الثروات والخيرات والمنافع، ما أحوجنا اليوم إلى طرح أسلحة الحقد والكراهية والأنانية والدمار والخراب، وإعطاء الفرصة لما يجمعنا كبشر من قيم إنسانية مشتركة، حينها سنكون قادرين على مواجهة ما يتهدد حياتنا على وجه الأرض، من تحديات ومخاطر وأزمات محتملة ..
الإمبراطور "أوميكرون" في جميع الحالات، ما هو إلا "جرس إنذار'' أو "رسالة" حبلى بالدروس والمعاني والعبر، تفرض حسن القراءة ودقة التأمل وعمق التبصر، عسى أن نكون ويكون العالم معنا، في مستوى الرسالة، وبمناسبة إطلالة السنة الميلادية الجديدة، نفتح رسالة أخرى، ونكتب عليها بأحرف بارزة : سنة سعيدة لكل أمم وشعوب العالم، مع دعوات صادقة في أن يرفع عنا الوباء، بقوة ومشيئة رب العالمين، وكل عام والإنسانية بألف خير ... أما أنت يا "أوميكرون"، فارقص كما تشاء .. فهذه ليلتك، بعد أن أوقفت طبول الاحتفال عنوة وفرضت طقوس الخوف والاستنفار ...