تفسر الطغمة العسكرية الحاكمة في الجزائر انخراطها في دعم البوليساريزو، قلبا وقالبا، بذريعة ما تعتبره "حق الشعوب في تقرير مصيرها". لكنها تنسى بأن العالم لا يحضن نزعة انفصالية واحدة ووحيدة. بل هناك مائة حركة انفصالية على امتداد بقاع المعمور. ولو كانت الجزائر مبدئية فعلا، مع نفسها ومع مبدأ تقرير المصير، لعاينا مائة مكتب مفتوح في العاصمة الجزائرية، ولرأينا سفراء الجزائر موزعين في المنظمات الدولية والقارية يساندون هؤلاء في مطلبهم الانفصالي. لكن الجزائر تغاضت عن الحركات الانفصالية التسعة والتسعين وتمسكت فقط بالبوليساريو، معها وأمامها وخلفها، لأن لها مخططا جيوستراتيجيا في شمال إفريقيا مضمونه هدفان لا ثالث لهما:
أولا: بسط هيمنتها على المنطقة برمتها.
ثانيا: وضع الحجرة في حذاء المغرب حتى لا يرسو على خطوة واحدة في طريق التنمية.
إن الدليل على ما نذهب إليه هو أن بلاد الجزائر هي نفسها تحتضن حركة انفصالية تسمى شعب القبائل، علما بأن هذا الشعب وقيادييه الذين يطالبون فقط بتأسيس جمهورية القبائل، لا ينعمون حتى بالتمتع على الأقل بالحقوق الدنيا التي تحرمهم منها العصابة الحاكمة بالجزائر.
لنترك حركة القبائل، ولنتأمل خرائط الانفصال في العالم. ولنكتف فقط باستعراض بعض مضامين هذه الخرائط لأن المقام هنا لا يسمح بسرد كل تلك الحركات.
في إفريقيا مثلا فإن المثل البارز هو كازامانس في السينغال، وحركة بيافرا في نيجيريا، وحركة "ويسترن كيب" في جنوب افريقيا وحركة تحرير تيغراي بإثيوبيا، وحكة تحرير أومبازونيا بالكاميرون، إلخ.... أما في أوربا فالمثال البارز في إسبانيا ممثل بحركات الانفصال في كاطالوينا والباسك وجزر الكناري التي تطالب بالانفصال عن مدريد. أما فرنسا فقد حطمت الرقم القياسي في عدد الحركات الانفصالية، ولعل أشهرها تلك المطالبة باستقلال كورسيكا والثانية التي تطالب باستقلال كاليدونيا الجديدة والثالثة التي تخص انفصال البروتون، إلخ.... وبجوارها بألمانيا هناك ولاية بافاريا التي رفع فيها، فيلفريد شارتاغيل، زعيم الحزب المسيحي الاجتماعي، شعار "بافاريا تستطيع أن تعيش بمعزل عن ألمانيا"، وفي بريطانيا تنتصب أمامنا حالة اسكوتلندا وحركة إيتا، وفي الدانمارك هناك حركة تطالب باستقلال غرينلند، أما في بلجيكا فنجد الفلامان الذين يؤججون الصراع للانفصال، إلخ..... أما إذا توجهها شمالا فسنجد أوكرانيا حيث المثال الشهير لشبه جزيرة القرم التي ضمتها مؤخرا إلى روسيا. وإذا سرنا باتجاه القارة الأمريكية فسنجد المثال البارز هو إقليم الكيبيك الذي يطالب بالاستقلال عن كندا. وحين ننتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية فهناك اكثر من حالة انفصالية. لن نتوقف عند مثال ولايتي كاليفورنيا وفلوريا، لكننا سنتوقف عند من يسمون بالكونفدراليين الذين يطالبون باستقلال الولايات الجنوبية الأمريكية عن ولايات الشمال بشكل سلمي، إسوة بما تم في تشيكوسلوفاكيا من خلال انفصال التشيك عن السلوفاك عام 1992. وفي جنوب القارة الأمريكية نجد حركة زاباتيستا في المكسيك.
أما في آسيا فالمثال الصارخ هو نموذجا التيبت وإيغور في الصين، ومينداناو في الفلبين، وحركة آتشيه الحرة في أندونيسيا، دون نسؤان حركة نمور التاميل بسيريلانكا، إلخ....
نستنتج من كل هذه النماذج الدالة أن الجزائر، إذ تغيب عن فضاءات الانفصال تلك، فلأنها بلا مبدإ، ولأن ما يهمها تحديدا ليس حق الشعوب وتقرير المصير وغيرها من الشعارات. بل ما يهمها هو الوصول إلى تفعيل مخططها الجيو استراتيجي لعرقلة مسيرة المغرب باتجاه التقدم. ثم هناك ما هو أكثر أهمية من الحساب الصغير للعصابة هناك. فالمغرب، اليوم وفي الماضي، يظل دائما الأكثر تشبثا بالمبادىء العليا من الجزائر بدليل أنه كان، طيلة مفاوضاته مع فرنسا من أجل الاستقلال، لا يطالب بعودة الصحراء الشرقية، وباسترجاع تندوف وعودتها إلى التراب الوطني. بل كان يطالب بشيئين اثنين: عودة السلطان الشرعي محمد الخامس رحمه الله إلى عرشه ووطنه، والظفر باستقلال المغرب. أما ما يخص ترسيم الحدود مع المغرب فقد كان يصر على تركها إلى حين حصول "الإخوة" الجزائريين على الاستقلال آنذاك سيتم حل المشكل. لكن ما أن استقلت الجزائر حتى كشرت عن أنيابها ضد المغرب، وحتى تأكد بأن الغدر واللؤم عقيدة ملازمة لحكام الجزائر منذ الاستقلال إلى اليوم. ولي اليقين أنهم سيظلون كذلك، لا فقط لأن مخططهم الاستراتيجي هو ضرب المغرب، ولكن لأن تقدم بلادنا المتواصل سيظل دائما هو العنصر المستفز لقادة الجزائر العاجزين عن التقدم.