بتعيين الحكومة الجديدة وافتتاح دورة البرلمان، نكون قد وصلنا إلى آخر حلقة من حلقات استحقاقات الثامن من شتنبر الماضي، التي بدأت بالانتخابات التشريعية والجهوية والجماعية، مرورا بانتخاب رؤساء وأعضاء المجالس الجماعية و رؤساء وأعضاء مجالس العمالات والأقاليم والجهات، وانتهاء بانتخاب أعضاء مجلس المستشارين، وفي المجمل، يكون المغرب قد كسب رهان تنظيم انتخابات تشريعية وجهوية وجماعية في يوم واحد، في تجربة انتخابية تعد الأولى من نوعها في تاريخ البناء الديمقراطي الوطني، على الرغم من الظروف الخاصة والاستثنائية المرتبطة بجائحة كورونا، لكن وبالمقابل، يصعب طي ملف هذه الاستحقاقات الانتخابية، كما يصعب النبش فيما ينتظر الحكومة الجديدة والجماعات الترابية المنتخبة من تحديات ورهانات، دون توجيه البوصلة نحو ما شاب العملية الانتخابية بمختلف محطاتها، من مشاهد مقلقة وممارسات غير مسؤولة، لايمكن البتة، القبول بها في مغرب اليــوم.
وفي هذا الإطار، نشيـر بالواضح والمكاشفة، إلى ما شهدته الكثير من الجماعات الحضرية والقروية بمناسبة انتخابات رؤساء وأعضاء المجالس، من مشاهد التوتر والنزاع والمواجهة والتعبئة والتحريض والوعد والوعيد، والمساومة والبيع والشــراء والبلطجة والاتهام والتهديد، كما وقع - على سبيل المثال لا الحصر- في الرباط أثناء انعقـاد جلسة انتخاب العمدة، وما حدث في جلسة انتخاب رئيس جماعة مكناس ، دون إغفال قضية عبدالرحيم بوعيدة، وواقعة وفاة عبدالوهاب بلفقيه، التي لايمكن فصلها عن تأثيرات المناخ الانتخابي، وهي مشاهد وممارسات من ضمن أخرى، لا يمكن قطعا القبول بها أو التطبيع معها، لما تحمله من تبخيس للمسلسل الانتخابي وإساءة للبناء الديمقراطي، وتعميق لبؤر الهروب والنفور من الانتخابات والممارسة السياسية برمتها، وتكريس للإحساس بفقدان الثقة واليأس وسط المواطنين، وتشويش على ما يواجه الدولة من رهانات تنموية كبرى، ومن تحديات خارجية مرتبطة بالوحدة الترابية للمملكة والمصالح العليا للوطن وقضاياه المصيرية.
إذا كان الملك محمد السادس قد أكد بشكل واضح في خطاب ذكرى 20 غشت، أن الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لصناعة مؤسسات وطنية قوية ذات مصداقية، قادرة على الانخراط في صلب الرهانات التنموية، والتصدي لمختلف التحديات الخارجية، فيبدو أن البعض إما لم يستوعب مضمون الخطاب الملكي، أو يصر عنوة على ممارسة العادات السيئة والطباع القديمة، التي تجرد الانتخابات من قيمها الديمقراطية والسياسية والتنموية، وتجعلها فعلا موسميا مرادفا للبيع والشراء والمساومة والابتزاز والمصالح السياسوية الرخيصة.
الانتخابات يفترض أن تكون عرسا سياسيا وشعبيا، نحتفي فيه جميعا بالديمقراطية، ونعتز فيه بما يجمعنا من قيم مشتركة، وما يميزنا عن غيرنا من أمن واستقرار وسكينة وطمأنينة، ومن طموح مشروع في الإصلاح والبناء والنماء، حتى نرتقي إلى مصاف الأمم والشعوب المتقدمة والراقية، أن تكون سباقا مواطنا، يتم التباري فيه بروح مواطنة ومسؤولية ومصداقية ونكران للذات واستحضار تام للمصالح العليا للوطن، ومادام الخيط الناظم للفعل الانتخابي هو خدمة الوطن والإسهام في تنميته وازهاره، فلا يهم من فاز أو انتصر، كما لايهم من تراجع وانكسر، لكن تهم المسؤولية والاحتكام لقواعد التباري الشريف واحترام حق المواطن/ الناخب في الاختيار، ويهم من هو قادر على الاستماع إلى نبض الشعب وحسن الاستجابة لحاجيات وتطلعات المواطنين وخدمة الصالح العام بمواطنة حقة وتضحية ونزاهة واستقامة.
وعليه، وبقدر ما نتطلع إلى المستقبل بعيون مفعمة بالأمل والتفاؤل في ظل الحكومة الجديدة ومختلف الجماعات الترابية المشكلة بعد محطة ثامن شتنبر، بقدر ما نرى أن الضرورة تفرض الانتباه إلى ما شاب المحطات الانتخابية من بعض السلوكات "غير المواطنة" التي لم يعد ممكنا التطبيع معها في مغرب اليوم الذي نتفق جميعا أنه ليس كمغرب الأمس، وهذه السلوكات، لابد من التصدي لها بكل حزم وصرامة في قادم الانتخابات التشريعية والجهوية والجماعية، وهي مسؤولية مشتركة بين الدولة والأحزاب السياسية والمواطنين/ الناخبين أنفسهم، تفرض الرهان على تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد والريع والعبث وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتقوية دعامات دولة الحق والقانون والمؤسسات والمساواة والعدالة الاجتماعية، وحتى لانوصف بالعدمية أو بالتبخيس أو نشر خطاب التيئيـس، فلا يمكن إلا أن نثمن نجاح المغرب في كسب الرهان الانتخابي، لكن يزعجنا كمواطنين أولا وكمتتبعين للشأن السياسي ثانيا، ما شاب استحقاقات الثامن من شتنبر الماضي من انزلاقات سلوكية هنا وهناك، قد يعتبرها البعض "انزلاقات معزولة" مقارنة مع الأجـواء العامة التي مرت فيها الانتخابات، لكن، نرى أن "الانزلاقات" أو "الانحرافات" غير ممكنة في مغرب اليوم، لأن الرهانات أكبر والتحديات أقوى والأعداء والمتربصين كثـر، ولا طريق أمامنا إلا الاستمرار في مسيرة البناء والنماء، والحرص كل الحرص على حماية الخيار الديمقراطي من أن تطاله أيادي العبث وأخواته، وإذا ما نظرنا إلى الحيز المملوء من الكأس، لايسعنا إلا أن نتمنى في أن تكون حكومة التحالف الثلاثي في الموعـد وأن تفي بكل وعودها والتزاماتها مع المواطنات والمواطنين، وأن تنجح في التنزيل الأمثل للنموذج التنموي الجديد، وتفلح في إعادة الاعتبار للمدرس الذي يعد محرك أي إصلاح وصمام أمانه، أمام المجالس المنتخبة، فلابد أن تتحمل مسؤولياتها كاملة في خدمة قضايا التنمية المجالية وتحقيق ما تتطلع إليه الساكنة من بناء ونماء وازهـار .. وبدون شك، سيكون لنا كلام - بعد خمس سنوات - في الاستحقاقات الانتخابية القادمة إن شاء الله، إذا ما كان في العمر بقية .. نقطة نهاية .. إلى اللقاء.