على غرار زملائهم عبر العالم، يحتفي نساء ورجال التعليم بالمغرب باليوم العالمي للمدرس الذي يصادف يـوم الخامس من شهر أكتوبر من كل سنة، وبقدر ما هي مناسبة لتهنئـة وتكريم الشغيلة التعليمية بكل فئاتها وانتماءاتها، لما تضطلع به من أدوار متعددة الزوايا في سبيل بناء الإنسان وترسيخ القيم الوطنية والدينية والإنسانية ونشر رسالة العلم والتنويـر، بقدر ما هي فرصة لننوه بما أبلته هذه الشغيلة من بـلاء حسن، خلال الأزمة الوبائيـة المرتبطة بجائحة كورونا، سواء تعلق الأمر بالإسهام في ضمان الاستمرارية البيداغوجية خلال الموسم ما قبل الماضي، أو عبر الانخراط الإيجابي والناجع، في صلب مختلف الأنماط البيداغوجية المعتمدة، حرصا على تأمين الحق في التعلم لجميع المتعلمات والمتعلمين، على الرغم من المخاطر الوبائية ذات الصلة بانتشار وتفشي العدوى، والتي أودت للأسف، بحياة الكثير من نساء ورجال التعليم على امتداد التراب الوطني، الذين قضوا في سبيل نشـر رسالة النبل والرقي والنور والحياة، رحمهم الله جميعا وكافة شهداء كورونا في المغرب كما في العالم.
يوم عالمي، يأتي في سياق موسم دراسي منصرم، حمل ألوان التوتر و الاحتجاج ومشاهد الاحتقان والغليان، فكان الميدان ملاذا للمحتجين والغاضبين واليائسين، وسط حالة من العبث النضالي، الذي حضرت فيه طقوس الأنانية المفرطة والمصالح الفئوية الضيقة، في غياب أية رؤية نضالية موحدة تستوعب الحقوق المتناثرة والمطالب المتناسلة، وفي ظل انسداد أبواب الحوار وضيق أفق الحل أو الحلول الممكنة، حضرت أدوات أخرى بديلة، تم الرهان فيها على خطط العنف والقمع والتحدي والكر والفر والوعد والوعيد في حلبة نضالية تقاسمها "مدرسون" يدافعون عن الكرامة ويرافعون عن المطالب والحقوق، و"رجال أمن " لا حول لهم ولا قوة، وجدوا أنفسهم في قلب معارك نضالية وجها لوجه أمام حشود وموجات من المحتجين، كان يفترض أن يتم التعامل معهم بأدوات الحوار والإنصات والمسؤولية، لا بلغة الصرامة الأمنية، وعلى الرغم من رهان المحتجين والغاضبين على ورقة "الإنزال النضالي" في شوارع الرباط على امتداد الموسم الدراسي، غابت الحلول الممكنة، ليخمد جمـر الاحتقان تحت الرماد بمناسبة العطلة الصيفية، ويبدو أنه شـرع في التوهج من جديد مع انطلاقة الموسم الدراسي الجديد، بناء على البرنامج النضالي الذي أعلنت عنه تنسيقية الأساتذة أطر الأكاديميات، والذي توزعت مواده وفقراته بيـن الانخراط في إضرابات وطنية وحمل الشارة السوداء ومقاطعة الأنشطة التربوية.
يوم عالمي، يأتي في سياق حكومة جديدة مشكلة من ثلاثة أقطاب كبــرى، تقاطعت برامجها الانتخابية حول ضرورة الاهتمام بالتعليم وإعادة الاعتبار للمدرسات والمدرسين باعتبارهم محرك الإصلاح وصمام أمانه، وخاصة ما ورد في البرنامج الانتخابي لحزب التجمع الوطني للأحرار القائد لقطار التحالف الثلاثي، والذي تخللته عدة وعود والتزامات لفائدة الشغيلة التعليمية، تقاطعت في تحسين الأوضاع المادية ورد الاعتبار للمهنة برمتها، وفي هذا الإطار، إذا كانت الحكومة السابقة لم تفلح في إيجاد الحلول الممكنة لما تتخبط فيه الشغيلة التعليمية بكل فئاتها، من أوضاع مزرية مكرسة لليأس وانسداد الأفق والاحتجاج، على الرغم من بعض المحاولات والتدخلات الخجولة، التي لم تكن إلا انحناء أمام عاصفة الاحتقان، وشكلا من أشكال المناورة للخروج من عنق زجاجة الأزمة النضالية المستعصية وإيصال سفينة الموسم الدراسي إلى بـر الأمان، فمن غير اللائق أن نشهر مبكـرا أسلحة الاتهام في وجه الحكومة الجديدة، لكن بالمقابل، تبقـى الآمال معلقة عليها، في أن تعيد الاعتبار للمدرسات والمدرسين عبر الارتقاء بأوضاعهم المادية والمهنية والاجتماعية والنفسية، و "رد الاعتبار" بات اليوم ضرورة قصـوى، لأن الرهان على مشاريع القانون الإطار للتربية والتكوين لن يكون إلا خاسرا، ما لم توازيــه إرادة حقيقية في النهوض بأوضاع الشغيلة التعليمية التي بها ومعها، يتحقق الإصلاح المنشود لقطاع حيوي واستراتيجي، يعد مدخلا لبناء الإنسان وترسيخ القيم الوطنية والدينية والاجتماعية والإنسانية، وقناة لا محيد عنها لكسب الرهانات التنموية المرتبطة بالنموذج التنموي الجديـد الذي لايمكن تصوره إلا داخل منظومة تعليمية ناجعة وفاعلة وعادلة ومستقـرة.
وإذا ما أردنا أن ننزع قبعة الكاتب، ونرتدي وزرة المدرس، وفي ضوء ما نعاينه على مستوى واقع الممارسة كغيرنا من الزملاء المدرسين، لامناص من التأكيد أن دار لقمان لازالت على حالها، ولا شيء يوحي بالتغيير المنشود، أو بتعبير أوضح، نرى أن رياح الإصلاح لازالت أبعد من الواقع المدرسي، على الرغم من دخول الرؤية الاستراتيجية للإصلاح موسمها السادس، والشروع في تنزيل مشاريع القانون الإطار للتربية والتكوين، وكمدرسين ممارسين، كنا نمني النفس في أن يحمل هذا القانون بعض المقتضيات التي من شأنها النهوض بالأوضاع المادية والمهنية والاجتماعية والنفسية للمدرسين، بما يضمن إعادة الاعتبار للمهنة ويحقق الاستقرار المهني والأمن الوظيفي، لكن ما يؤسف له، أن المدرس يتموقع أو ربما يراد له أن يتموقع خارج رقعة الإصلاح ودائرة العناية والاهتمام، رغم أنه أساس الإصلاح ومحركه وصمام أمانه، ويكفي قولا أن المهنة باتت مهنة من لامهنة له، ومأوى للعاطلين والفارين من "جندية" البطالة القاتلة، وأضحت مهنة مقرونة باليأس والإحباط وانسداد الأفق والاحتقان، فاقدة لشروط التحفيز والتقدير والجذب والإشعاع مقارنة مع الكثير من المهن والوظائف، وهذا الرأي الشخصي، يزكيه الميدان، الذي تحول في السنوات الأخيرة، إلى أرضية للاحتجاج وفضاء لرفع الحقوق والمطالب، في ظل انسداد أبواب الحوار والإنصات، بكل ما لذلك من تكلفة مادية ونفسية وأمنية، ومن تأثيرات عميقة على إيقاعات التعلم وخاصة على حقوق المتعلمين الذين لا ناقة لهم ولا جمل، في معارك نضالية لا أحد يراعي فيها "حق المتعلمين في التعلم"، لا من جانب المحتجين ولا من جانب صناع القرار السياسي والتربوي.
ونحن نحتفي باليوم العالمي للمدرس الذي يتزامن والدخول المدرسي والجامعي والتكويني، كان بودنا أن نحتفي بما تحقق للشغيلة التعليمية من مكاسب مادية ومهنية واجتماعية، وبالقطع مع مختلف مشاهد الاحتقان التي حضرت بقوة خلال السنوات الأخيرة، وأن نفتخر بما تحقق من ثورة إصلاحية حقيقية على مستوى المناهج والبرامج ومنظومات التقويم، ونعتـز بالتحول الذي يفترض أن يطال المدرسة العمومية على مستوى البنيات والمرافق والتجهيزات، لترتقي إلى مستوى الكثير من المؤسسات التعليمية الخصوصية، لكن واقع الممارسة، يعطي الانطباع للمدرسين والمهتمين والزائرين، أن البيت المدرسي لازال على حاله، وفيـا كل الوفـاء لمشاهد النمطية والرتابة والتواضـع، بل وحتى جائحة كورونا التي أحدثت ارتدادات عميقة في منظومات التربية والتكوين عبر العالم، كنا نتمنى أن تكون فرصتنا للتقدم خطوات إلى الأمام، عبر "استعجال" ‘اعادة النظر في المناهج والأطر المرجعية للامتحانات، والتخفيف من كم البرامج الدراسية وتنزيل منظومات تقويمية عصرية ومرنة، تقطع مع مفـردات الحفظ والتخزين والذاكـرة والمتاعب والعذاب والمشـاق والإرهاق، والقطع مع معضلة الاكتظاظ داخل الأقسـام، عبــر تجويد نظام "التفويـج" الذي أثبتت التجربة أهميته ونجاعته، لكن، يبدو مرة أخرى، أننا أخلفنا الموعد، فلا المناهج زحزحت ولا الأطر المرجعية عدلت ولا البرامج غيرت، ماعدا مذكـرة جديدة للمراقبة المستمرة، أضافت إلى القائمة التقويمية "فروضا موحدة "، اعتبرها البعض إثقالا لكاهل المدرسات والمدرسين بالمزيد من الأعباء والمتاعب والمشاق، واعتبرها البعض الآخر مجرد إضافة تقويمية شكلية لن يكون لها أي أثـر حقيقي على المتعلمين ، بما أن خارطة طريق التقويم، لازالت قارة وثابتة محافظة على جلبابها النمطي، فيما اعتبرها البعض الثالث مبادرة فاقدة لحس الإصلاح والتجديد، من المتوقع أن تحدث نوعا من الارتباك على مستوى تنزيل هذه الفروض الموحدة، خاصة فيما يتعلق بالتنسيـق والإعداد والبرمجة والإنجاز والتصحيح والمسك، فضلا عما يمكن أن يترتب عن ذلك من إرباك لسيرورات التعلم واستنزاف لطاقات وقدرات المتعلمين الذين سيعيشون انطلاقا من هذا الموسم الدراسي، بين فكي الفروض الصفية والفروض الموحدة، دون إغفال شبح الامتحانات الإشهــادية.
وحتى لايتهمنا البعض بالتبخيس، أو بالنظر إلى الجزء الفارغ من الكأس دون الجزء المملوء، فلايمكن إلا أن نثمـن ما بشر به القانون الإطار للتربية والتكوين من مشاريع إصلاحية واعدة وطموحة، لكن في ذات الآن، لا نتلمس لحد الساعة، الأثر المباشر لهذه المشاريع على واقع حال الشغيلة التعليمية التي لازالت تمارس مهمامها المتعددة المستويات، في غياب أدنى شـروط التحفيــز، سواء تعلق الأمر بالأجـور المتواضعة قياسا لعدد من المهن والوظائف العمومية، أو على مستوى التعويضات التي تكاد تنعدم جملة وتفصيلا، ماعدا ما يتم التوصل به من تعويضات هزيلة عن مهام التصحيح أقرب إلى "الفتات" إن لم نقل "الصدقة"، أو على مستوى الترقي المهني، دون إغفـال محدودية بنيات الاستقبال وتواضعها أحيانا، واستمرارية حضور نفس المناهج والبرامج والوثائق التربويـة التي بلغت من العمـر عثيـا، ومع ذلك، لازالت حاضرة بقوة في زمن الإصلاح.
وقبل الختم، نرى أن الحكومة الجديدة ، مدعوة أولا للوفاء بوعودها والتزاماتها حيال أسرة التعليم في ضـوء ما تعهـدت به الأحزاب المشكلة لها في برامجها الانتخابية، ومدعوة ثانية لاستحضار درجة الاحتقان المستشـري وسط الشغيلة التعليمية منذ سنوات، وتقديــر تداعيات ذلك على استقرار المدرسة العمومية وعلى إيقاعات التعلم، وعلى النظام العام في ظل ارتفـاع منسوب الاحتجاجات والإضـرابات التي بات بعضها طقسا من طقوس العبث، بشكل يؤزم من وضعية المدرسة العمومية ويقـوي أحاسيس فقـدان الثقة فيها، بل و على الإصلاح ذاته، والذي يفتـرض إحاطته بكل شروط وضمانات النجاح حرصا على المال العام وحماية لزمن الإصـلاح، خاصة ونحن في زمن النموذج التنموي الجديد، الذي لايمكن تصوره أو مقاربته، إلا في ظل منظومة تعليمية مدرسية وجامعية وتكوينية متقدمة على مستوى المناهج والبرامج والعروض التربوية، وهي مطالبة من باب الاستعجال، بالإفراج عـن مستحقات الترقيات ذات الصلة بالامتحانات المهنية والـرتب ، المجمـدة ما يزيد عن السنتيـن بمبـرر الأزمة الوبائية القائمة، وبالتحرك الفعلي، في اتجاه إيجاد الحلول الممكنة والواقعية والقانونية، لمختلف الملفات الشائكة التي لازالت تؤجج جمر الاحتقـان، ومنها ملف "الأساتذة أطر الأكاديميات"، ووضع منظومة تعويضات ناجعة وعادلة من شأنها التحفيـز وإعادة الاعتبـار، والانخـراط الفعلي في حوار مواطن ومسؤول مع الفاعلين الاجتماعيين، في أفق تنزيل نظام أساسي جديد عادل ومنصف ومحفـز، يستوعب كل فئات الشغيلة التعليمية، يعيد للمدرسة العمومية استقرارها ولأسرة التعليم كرامتها وشرفها.
ونختم بالقول، أننا لسنا بقضاة لنوزع صكوك الاتهـام ولا بمحامين حتى نترافع عن كرامة المهنة وشرفها و لا حتى بنقابييـن لندافع بشراسة عن الحقوق والمطالب، وإذا لاحظنا أو عاتبنا أو انتقدنـا، فلأننـا نتطلع إلى مدرسة عمومية آمنة ومستقرة قادرة على الانخــراط في صلب المتغيرات الوطنية والإقليمية والدوليــة، والتفاعـل معها بوعي وتبصـر، عبــر مناهج عصرية وعروض تربوية رصينـة، قادرة على بنــاء الإنسان / المواطن الذي يتطلبه مغــرب اليوم، ونتــوق إلى أســرة تعليمية تسترجع كرامتها وشــرفها ورقيها وإشراقها.
وبما أن واقع الحال لم يعد يسر الناظرين ، فليس أمامنا إلا ترك رسالة مفتوحة أمام حكومة الحمامة، التي يعــول عليها لحفظ ماء الوجه وإعادة الاعتبار لمن قيل فيـه "كاد المعلم أن يكـــون رسولا"، فيكفي مهانة وإهانة وتواضع وتراجع، يكفي احتجاجا واحتقانا ويأسا وانسداد أفق، يكفي أن يتحول المدرس إلى أشبه بالمتسول الذي يطوف بين المؤسسات الخصوصية نهارا ومراكز الدعم ليلا، بحثا عن فرصة شغل ثانية تساعد على تحمل أعبـاء ومتطلبات الحياة، بدل أن يهدر الطاقة في التكوين والتحصيل والبحث العلمي، بما يضمن الارتقاء بمستوى القدرات المعرفية والمنهجية والتواصلية والإبداعية، والرفع من منسوب المهارات الحياتية والذاتية، خدمة وتجويدا للعمليات التعليمية التعلمية، يكفي أن يبقى المدرس "عداء" يجري في المضمار بدون كلل أو ملل، وراء الساعات الإضافية حاملا شعار "مرغم أخاك لا بطل"، بكل ما لذلك من تداعيات صحية ونفسية، تؤثــر سلبا على منسوب العطاء داخل الحجرات الدراسية ، يكفي ويكفي ويكفي أن يظل المدرس شخصية مجتمعية مقرونة في أذهان البعض بالنكتة والسخرية والتهكم والإهانة والاحتقار ، ولا نأمل إلا أن يتم استعجال تصحيح الصورة وتقويم المشهد وإعادة الاعتبار للمهنة وشرفها. وفي جميــع الحالات، هنيئـا لنساء ورجال التعليم بعيدهم العالمي في المغرب كمافي العالم، متمنييـن لهم، دوام الصحة والعافية ودوام التميـز والإشـراق والإبداع والإشعاع، وكل عام والشغيلة التعليمية بألف خيــر.