عبد الالاه حبيبي: الحجر الأخير في حرب التنابز بالألقاب

عبد الالاه حبيبي: الحجر الأخير في حرب التنابز بالألقاب عبد الالاه حبيبي
لا ينطلق التفكير السليم من خلفية البحث عن البلاغة المؤثرة في المتلقي، لحمله على تقبل الفكرة المراد إقناعه بفهمها، قصد دعمها وتبنيها كقناعة ذاتية، من ثم تعبئته للدفاع عنها بأسلوبه الشخصي في وسطه الخاص لتأصيلها تدريجيا حتى تغدو فكرة عامة، أي رأيا عاما تتداعى له أغلبية مفترى عليها طبعا، أي العامة المنقادة بلاغيا، والمستسلمة إيديولوجيا لسلطة الأقوى خطابيا، والأذكى تواصليا، والأقدر على تحريك المشاعر الباطنية التي لها علاقة بالهوية والمقدس النائم في كل نفس بريئة...
التفكير السليم على الضد من ذلك ينطلق من مقدمات صحيحة منطقيا وواقعيا، ومتوافقة مع المعطيات العلمية والمقاربات المنهجية الصحيحة، مع التذكير بالتراكمات الحاصلة في مجال الموضوع المراد البرهان عليه...فلنفترض جدلا أن القضية  المطروحة هي التربية الروحية من جهة، واللغة الأجنبية المراد اعتمادها في التدريس من جهة ثانية، أي أن المناظرة تروم الدفاع عن هذين المطلبين بخلفية اعتمادهما في البرامج والمناهج الدراسية المنتظرة أو المرتقبة...
السائد الآن، ومن خلال المنشورات الرائجة في وسائل التواصل الاجتماعي هو أن هناك شكوى من هجوم على المعتقد من خلال التربية التي تحتضنه في المقررات المدرسية، ثم هناك دعوة أخرى تزحف خجولا تنادي بالتشطيب على اللغة الفرنسية وإحلال اللغة الانجليزية محلها...
لنفترض أن الأمر يتعلق بحوار عادي بين مفكرين، أو بين تربويين لهم علاقة مهنية قوية بميدان التعليم والبرامج وخلفياتها المعرفية والثقافية ورهاناتها الحضارية والإيديولوجية، فالناقش سيدور حول المسوغات التي تبرر كل تعاطي إيجابي أو سلبي مع الموضوع دون إغراق النقاش في ما لا يمت للموضوع بصلة، أي تفادي البحث عن أسباب النزاع الفكري لتحقيق نصر إيديولوجي على طرف تستهدفه عملية إثارة الموضوع من الأصل، وهذا سيتحدد بمدى قدرة الأطراف المتحاورة على نقل النقاش من دائرة المعتقدات إلى دائرة المعارف القابلة للتحويل البيداغوجي من جهة، والمفيدة في البناء العقلي والسلوكي للمتعلمين من جهة ثانية... 
في هذا السياق سنكون في نطاق المشهد التالي: سيشعر المتحاورون أنهم يتحدثون في موضوع له علاقة بالتربية ولا يدخل في مجال العقيدة أو برهانات الإيديولوجيات المرتبطة بها ، وهذا ما سيحقق لهم  حدا أدنى من الموضوعية  الفكرية والدقة المنهجية  في تناول الموضوع من كل جوانبه المعرفية والمنطقية  والبيداغوجية، وذلك  لجعله موضوعا قابلا لان يصبح مادة دراسية تؤهل المتعلم لأن يكتسب كفايات تساعده على الانخراط مستقبلا في كل النقاشات التي لها علاقة بالهوية والعقيدة دون تعصب أو غضب، لأنه سيكون قد تعلم في المدرسة كيف يميز بين الموضوع في صيغته المعرفية، وبين نفس الموضوع في صيغته العقدية، وهنا سيكون قادرا على الإقناع وإدارة الحوار برؤيا متقدمة وبأخلاق تواصلية عالية...
نفس الشيء يصدق على متحاورين في موضوع يتعلق بأنسب اللغات الأجنبية التي يمكن تعليمها في المدرسة... الفرض الأول سيتعلق بمتحاورين من خندقين فكريين متخاصمين منذ عقود، حتما لن ينتهي الموضوع إلى أية نتيجة عملية، بل سيكتفي كل طرف بعرض الأفكار والنظريات والشواهد التي تبرر هذا الاختيار دون ذاك، برغبة واحدة وهي عدم السماح للآخر بتسجيل موطئ قدم في ملعب يعتبره حكرا عليه وعلى معادلاته الفكرية، بحيث يعتقد أنه غير مسموح لأي "غريب" أن يتجرأ على اقتحامه بخلفية الهدم والاستئصال العنيف...ومن هنا تكريس نظرة أحادية للموضوع وإقصاء تعسفي لكل الآراء المخالفة...
الفرض الثاني يتعلق بنفس الموضوع لكن المتحاورون هذه المرة من جنس التفكير السليم غير المتأثر بالخنادق المتحاربة في الخارج، بل بمفكرين يحاولون البحث عن ما هو الأنسب لتربية الناشئة بشكل يتوافق مع حاجياتها وحاجيات المجتمع الآن ومستقبلا في سياق رؤيا شمولية تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار...
طبعا لا يمكن أن نتخيل حوارا موضوعيا بشكل مطلق، لأن التفكير المفترض هنا هو تفكير يحاول أن يتخلص من الحرارة الاجتماعية، والحماس الإيديولوجي الزائد، والمصالح الذاتية الآنية قدر الإمكان،  وذلك لأجل  حل معضلات كبيرة ذات جذور ثقافية عميقة، وتجنيب المجتمع حروبا مجانية قد تدخله في تقاطبات خطيرة تؤزم كل المؤسسات وتؤخر سؤال التنمية بشكل مزمن... أي الاتفاق  الصارم  والواضح حول تخويل نخب مثقفة صلاحية التداول والبث في هكذا مشكلات، مع دعوتها لمراعاة مصالح البلاد العليا وتوازن القيم الاجتماعية دون إهمال الرهانات المستقبلية لأدوار المدرسة والتنشئة الثقافية ككل.. وذلك مع توفير كل الشروط الضرورية لحماية المتحاورين من كل هجوم عقائدي يصدر توصيفات قدحية، أو حملات تشهير ساقطة، أو  تصريحات تهدف الإساءة و الحط من القيمة العلمية والفكرية للمتحاورين... إنه خيار شاق طبعا لأنه يتطلب صفاء سياسيا وعقيدة فكرية واضحة المعالم... و إرادة تغيير حقيقية، أي يستلزم وضع شروط ثورة ثقافية هادئة دون عواصف تهلك الزرع والضرع...
التفكير السليم هنا هو الانطلاق من المعطى القائم، أي تحليل الواقع اللغوي سوسيولوجيا، ومساءلة نظامه الرمزي السائد، والبحث في الشروط التي تعيد إنتاج هذا النظام وعلاقته بالمصالح الحيوية للبلد والناس... وذلك باستبعاد كل النزوعات الشخصية والجماعية التي تبسط الموضوع وتعتبره مجرد سؤال استهلاكي يمكن الحسم فيه بقرارات سياسية سريعة...إن مثل هكذا دعوات تميل حيث هوى ضوضاء الجموع، ولا تحقق الشرط العلمي المأمول والمراهن عليه لتحقيق الخيار المناسب وبعده الخيار الأنسب...
 لا يتعلق الأمر بالتوافق، لأنه منهجية سياسية فاشلة، لا تغير شيئا، لا تحقق القفزات النوعية المؤلمة، بل لا تعمل سوى على تكريس هاجس الحفاظ  على التوازنات السياسية  في سياق عقلية لا غالب ولا مغلوب، التوافق هو الطريق الهادئ نحو الخضوع للسائد وإعادة إنتاج العوائق بطريقة مغايرة...بل ينبغي البحث عن المطارحات الصريحة، المجابهة الفعلية للمشكلات في سياق الوقائع الحادثة، والتطورات المقبلة والتحديات التي تواجه البلد اليوم وغدا وكل يوم، بمعنى الانتقال من البحث عن إرضاء كل الأطراف إلى إرضاء الحقيقة وتشجيع التصريح بها في وجه الجموع الغاضبة... دون ذلك لن ننتج خيارات صحيحة، ولن نتعرف على المقاربات المناسبة، وسنظل نتخبط في نفس العقليات والسلوكات السياسية الظرفية في انتظار استحاقاقات قادمة ... وهكذا دواليك...