لايمكن أن نطوي صفحة المرحلة الأولى من المشاورات التي أجراها عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيس الحكومة المعين، مع قادة الأحزاب السياسية سواء تلك التي يرتقب أن تشكل أعمدة التحالف الحكومي المقبل، أو تلك التي ستجنح سفينتها نحو صفوف المعارضة، دون أن نتوقف عند التصريح الذي أدلى به مصطفى بنعلي، الأمين العام لجبهة القوى الديمقراطية، مباشرة بعد نهاية جلسة التشاور بينه وبين رئيس الحكومة المعين، والذي أكد من خلاله أن البلاد انتقلت من “مشروع دولة إسلامية إلى مشروع دولة مجتمعية ليبرالية”، وهذا التصريح أثار زوبعة من الجدل واللغط في عدد من الأوساط الأكاديمية والسياسية والاجتماعية والإعلامية، وصلت ارتداداتها حتى إلى العالم الافتراضي، بل وشكلت مادة دسمة لبعض المنابر الإعلامية العربية، فهل ما قاله الأمين العام للجبهة كان "زلة لسان" حركتها الحماسة المفرطة الناتجة عن "دهشة" الاستقبال والتشاور ؟ أم هي كبوة حصان، كان بالإمكان تفاديها، في طريق معبدة، بل وفي لحظة انتخابية وسياسية عابـرة تحت الأضواء، تقتضي ضبط اللسان والاكتفاء بلغة المجاملة السياسية، طالما أن الجبهة مكانها الطبيعي في صفوف المعارضة، في ضوء ما حققته من نتائج في استحقاقات ثامن شتنبر ؟
ما قاله المسؤول الحزبي، ينطبق عليه بشكل أو بآخر المثـل "جا يكحلها عماها"، بمعنى أنه كان يمني النفس في أن يدلي بتصريح قــوي ينسجم وقوة وخصوصية اللحظة السياسية وأمام رئيس الحكومة المعين، وفي ظل حضور قوي ووازن لوسائل الإعلام الوطنية وبدون شك العربية والدولية التي تغطي مشاورات تشكيل حكومة عزيز أخنوش، فإذا به، خـرج عن السكة، وأدلى بتصريح فاقد للبوصلة، بل وخارج التغطية والسياق والمقـام، "تكرفص" فيه على مقتضيات الدستور المغربي الذي يجعل من الإسلام دين الدولة، و"مرمد" تاريخ الأمة المغربية الذي ظل فيه الإسلام دينا رسميا منذ عهد الدولة الإدريسية، وتجرأ على الأمن الروحي للمغاربة، الذي لا يمكن تصوره إلا داخل نطاق الإسلام الوسطي المعتدل، أكثر من ذلك، فالادعـاء بخروج البلد من "مشروع دولة إسلامية" إلى "مشروع دولة ليبرالية"في هذه اللحظة السياسية، قد يعطي الانطباع لدى البعـض أن سقوط المصباح هو سقوط للإسلام، كما يمكن أن يعطي الانطباع للبعض الآخر، أن سقوط المصباح وأصحابه، حركته رغبة مقصودة لإسقاط الحزب الذي يمسك بورقة الإسلام، وهذا لايقبل به عقـل ولا منطق.
نشير في هذا الإطار أن إسلامية الدولة الأمة المغربية مكرسة دستورا وقائمة تاريخا وواقعا وممارسة، ونرى أن هذا الموضوع "محسوم فيه"، ولايمكن البتة أن يكون موضوع نقاش أو جدال أو لغط، أو أن تركب عليه أية جهة من الجهات، لأن الإسلام هو مشترك ديني للمغاربة قاطبة بكل أطيافهم وانتماءاتهم، وبالتالي، فإذا كان لابد من الحديث عن مشروع، فالمشروع الحقيقي الذي ينتظره المغاربة هو "التنمية" ولا شيء غيرها، أما القول بالانتقال من "مشروع دولة إسلامية" إلى "مشروع دولة ليبرالية"، فهـذا الطرح أو التصور، لا يلزم إلا صاحبه وهذا الانتقال المزعــوم لايوجد إلا في مخيلة قائلـه، لأن المغربي يحتاج إلى التعليم الفعال والصحة الناجعة والشغل القار والسكن الكريم، كما يحتاج إلى الارتقاء بمستوى البنيات التحتية والتجهيزات العمومية ومحاربة العبث والفساد السياسي والأمن والوحدة والاستقرار والكرامة وجودة الحياة، وغير معني باليمين واليسار ولا بشعارات الاشتراكية ولا بقواعد الليبرالية.
ومهما كان مبرره أو رسالته، نـرى أن لسان "سي مصطفى بنعلي" انحـرف، وحصانه تعثـر بشكل عصي على الفهم والإدراك، وربما ارتفعت فيه جرعات الحماسة ومنسوب الخطابة أمام الميكروفونات وعدسات الكاميرا التي التفت حوله، فصـرح بما صرح به وانتهت الحكاية، لكن حكايته أثارت زوبعة من الجدل والنقـاش في عدد من الأوساط، وهذا معناه، أن زعيم الجبهة لم يكن موفقا فيما صدر عنه من تصريح مجانب للصـواب، فالرجل وبعد استقباله من قبل رئيس الحكومة المعين، كان يفترض أن يضبط كلامه وأن يدلي بتصريح مقتضب على غرار ما قام به رؤساء الأحزاب الذين تشاور معهم عزيز أخنوش، ارتباطا وانسجاما ولحظة "الاستقبال" و"التشاور"، ولم يكن مضطرا لإبداء رأي أو الإعـلان عن موقف أمام العلن، من منطلق أن "لكل مقام مقال" واستحضارا أن "الجبهة" لا موضع قدم لها في الحكومة المقبلة إلا صفوف المعارضة، ونـرى كمتتبعين، أنه أساء لشخصه، كما أساء للحزب السياسي الذي يترأس أمانته العامة وسلط نحوه سهام الرفض والإدانة والاستنكار، في الوقت الذي يفترض أن تنكب فيه "الجبهة" على توسعة قاعدة المناضلين والمتعاطفين والمحبين.
ونحن ننبش في تضاريس الواقعة، نذكر أننا لسنا قضاة نيابة عامة لنوزع صكوك الإدانة والاتهام، ولا بقضاة حكم، لنحكم بأقسى العقوبات، ولا حتى بمحامين لنترافع عن هذا الطرف أو ذاك، ونكتفي مرة أخرى بالقول أن "لكل لسان زلة" و"لكل حصان كبوة"، وسواء تعلق الأمر بالزلة أو بالكبوة، نرى أن المسؤول الحزبي، لابد له أن يعيد السير والجــولان في تصريحه "درب درب" و"زنكة زنكة" و"بيت بيت" على حد قول الراحل القدافي، ووضعه تحت مجهر المسؤولية والالتزام والوضوح والمصداقية، ولم لا الخــروج بتصريح جديد عند الاقتضاء، يوضح فيه حقيقة ما أدلى به من تصريح أسال لعاب الكثير من الجدل واللغط والاتهام، وهي فرصة لنوجه رسالة مفتوحة إلى الفاعلين السياسيين، ونخص بالذكر رؤساء الأحزاب السياسية، من أجل الارتقاء بمستويات الخطاب السياسي، والحرص كل الحرص على ضبط اللسان تفاديا للزلات القاتلة أو الكبوات المميتة، وأن يكونوا على وعي وإدراك أن خطاب "الشعبوية" و"الشعارات الرنانة" و"المواقف الحماسية" لم تعد تجدي ولن تجدي أبـدا، لأن المغاربة يريدون "المعقول" و"الوضوح" و"المسؤولية" و"المصداقية"، وينتظرون من يخدمهم ويستجيب لانشغالاتهم وتطلعاتهم بوطنية صادقة ومسؤولية ونكــران ذات، فارتقوا بخطابكم معشر السياسيين، فقد "بلغ السيل الزبـى"، فلم نعد قادرين على تحمل المزيـد من "لغطكم" و"جدالكم" و"صراعاتكم" الخفية والمعلنة، فتحملوا مسؤولياتكم بصدق ونزاهة واستقامة ومسؤولية، أو ارحلوا في صمت وبدون ضجيج، واتركوا الكرة في الميدان، فهناك أقدام مواطنة، قادرة على كسب الرهان .. انتهى الكلام.