عجبت لبعض المناضلين الذين صمدوا أيام الجمر ضد شتى صنوف الترهيب والترغيب، وكانت قناعتهم منسجمة مع حماسهم وصلادتهم، غير أن بعد تعاقداتهم الجديدة مع المجتمع والدولة ببنود مغايرة، ربما قد تكون أكثر فائدة لهم بصفة شخصية، ودون أن يرغمهم أي أحد على تبرير "تحولهم" وتغيير قناعاتهم، صاروا خلال "العهد الجديد" يقرون بكل طواعية واختيار بأنهم اخطئوا مسالكهم الحياتية إلى درجة اعتبر فيها بعضهم أنه كان جلادا وفاشيا من الدرجة الثانية، أي بعد جلادي الدولة والنظام.
إنه من حق أي مناضل سابق يحترم نفسه ورفاقه منهم الذين استقطبهم إلى هذا المسار"الميؤوس منه"، أن يتراجع عن أفكاره وحماسه الشبابي الفائت؛ لكن بشرط أن يكون هذا الإقرار وهذه الردة معللة بأسباب موضوعية غير نفعية وأن تكون على شكل نقد ذاتي مفيد للوطن عموما وللأجيال بصفة خاصة. فأين يمكن أن نصنف تصريحات هؤلاء، التي كانت أمام أعين أرامل الشهداء واليتامى؟ هل هذا يخدم فعلا قضية الكشف عن الحقيقة؟ وهل يمكن أن نصنف ما حصل من جلد للذات نقدا ذاتيا؟ أم أنه مجرد ارتباك نفسي دفع أصحابه إلى الإحجام عن النضال والمبادئ مقابل الإقدام على مغامرة سياسية لا تقل تهورا عن سابقاتها؟. فبماذا يفيد هذا " الإقرار" العمومي شبابنا بل المشاريع المجتمعية الجارية أو التي في طور التبلور؟
إنه لا مناص منذ البداية من استحضار السياق العام الذي تم فيه الإعلان عن جلد الذات،بنفس القدر الذي يجب أن نقيم فيه الخط الفاصل بين المثول أي الحضور حاليا وبين الاستحضار وعوض أن يحصل العكس عمد المصرحون "التائبون" إلى الاعتماد على المثول (الحضور حاليا) كوسيلة للتغيير الكيفي للذكريات، الشيء الذي عكس أيضا عملية التأثير والتأثر فوقع الخلط الفاضح بين الذكرى كتمثلات وبين الذاكرة كمسلسل تراكمي للمعطيات والتحولات. فلا غرابة إذن أن نلمس بأن المصلحة وعامل السن قد يؤثر إن بشكل حاسم على عملية صناعة الموقف النقدي للماضي والذكريات بأثر رجعي، وذلك بناء على متخيل أنعشته إغراءات الحاضر وفوبيا العودة إلى "أحلام" الماضي المزعجة الآن والوردية آنذاك بما فيها المحاسبة على الأخطاء والانزلاق تجاه الرفاق والحركة " الثورية" التي كانوا ينتمون إليها.
فكيف للمجتمع الذي يؤمن بماضيه الأليم، صانع الاستقلال وإن كان شكليا وباني المغرب الجديد وعلى علته بالتضحيات والفداء، أن ينصت إلى هؤلاء والأحرى أن يصدق أو يتبنى "جلدهم " الذاتي في وقت لازالت المصائر غير محددة والقبور مجهولة والجلادين والخونة يدبرون ملف الحقيقة في الاتجاه المعاكس.
لقد كان بود الضحايا وذي حقوق الشهداء أن يقبلوا هذا الكلام لو أن جزء من المشروع المجتمعي الذي ناضل من أجله " الرفاق" قد تحقق، ولكن مادام الحاضر لم يلامس مظاهر التحول المنشود ومادام أن الحاضر نفسه الذي أراد أن يتأمل فيه التائبون خارج الأجل التاريخي لازال يحمل بين ثناياه عناصر الإستمرارية ومؤشرات تكرار ما جرى من انتهاكات لحقوق الإنسان؛ فإن النقد الذاتي كان صيحة في واد بدون رجع أو صدى.
إنه من العار أن نتخلف عن شعبنا الذي ننوي تطوير وعيه والرفع من شأنه، من الرعاية إلى المواطنة، هذا الشعب الذي التزم أن يتخلى عن العنف مقابل الأمن ويتنازل عن الصدامية مقابل الديمقراطية وعن سلطة الجغرافية مقابل كرامة التاريخ، وهو ما يستدعي بالنتيجة التخلي عن الذكريات الخاصة لصالح الذاكرة الجماعية التي ينبغي تقييمها بالتذكر الايجابي الموضوعي وليس بالتنكر السلبي الأناني.