وترى المرنيسي أن الفيلسوف العربي القرطبي ابن رشد سعى من وراء حجاب عصره إلى كشف وتشخيص مآزق مجتمعه الذي لا يجد سبيلاً إلى التقدم والخروج من تحجّره ما دام نصفه، إن لم يكن ثلثاه من النساء، لا يعملن شيئاً يسهم في تقدمهن وتقدم مجتمعهن وتلك الحدود الموسومة جعلت نصف الجماعة متكلة على نصفها الأخر.
6/- وفي كتاب "الحب في حضارتنا الإسلامية" قدمت الراحلة فاطمة المرنيسي بحثا عن السعادة من خلال الحب، عبر الاستناد إلى مرجعيات تراثية متقاربة في الحب والعشق / مرجعيات لفقهاء ورجال دين وقضاة، وبعضهم من أئمة المذاهب كابن حزم ( الظاهري) في كتابه المعروف"طوق الحمامة" وابن قيم الجوزية في " روضة المحبين" وابن الجوزي في " ذم الهوى" والجاحظ أمام النثر العربي القديم من خلال "مغامرة الجواري والغلمان" والإمام الغزالي من خلال "إحياء علوم الدين" ومحيي الدين ابن العربي من خلال " ترجمان الأشواق".
في نظر العديد من الباحثين في موضوع الحب، أن المقدمة التي أنجزتها الباحثة المبدعة، كانت أهم ما في هذا الكتاب، بل لعل الكتاب هو تلك المقدمة، لأن سائره هو عناوين اثنتي عشرة مسألة مطروحة في الحب والشهوة واللغة والحرية والعبودية، كل عنوان تليه شواهد من التراث، حيث لم تقف فاطمة المرنيسي محايدة في أسئلتها حول هذه المواضيع الخطيرة، فهي وإن كانت تقوم برحلة الحب والشهوة عبر التراث، تنخرط في عصرها وفي العصور الحديثة، من خلال الانخراط في حساسيات العصر وأسئلته.
لا تنتهي المرنيسي في كتابها إلى نتيجة، لكنها تثير الأسئلة الحقيقية العميقة حول هوية المرأة في المجتمع العربي والإسلامي في واقعها الراهن على ضوء التراث والمعتقد، وهو تراث متنوع ولكنه حي ومعبر.
وتأتي أهمية الأسئلة التي طرحتها فاطمة المرنيسي من كونها أنثى معنية بجسدها وحريتها عنايتها بالبحث والتنظير.
-3-
هكذا قدمت الراحلة فاطمة المرنيسي من خلال هذه الكتب وغيرها كثير، لا يسمح هذا المقال الإعلامي بالتوقف عندها جميعها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : الجنس كهندسة اجتماعية / هل أنتم محصنون ضد الحريم / الجنس والايدولوجيا والإسلام / ما وراء الحجاب / شهرزاد ترحل إلى الغرب / نساء على أجنحة الحلم / قدمت الرؤى الأكثر عمقا وتشريحا للعالم المشفر الذي عاشت / تعيش به المرأة العربية، حيث فتحت الباب على مصراعيه بدون خدلقة / بدون أقنعة، لنكتشف ذلك الكيان المقصي والمهمش والمرموز الذي دارت حوله نصوصها الأدبية / العلمية / السوسيولوجية.
ركزت دراساتها العلمية / الأكاديمية، على المرأة العربية والمسلمة في الحاضر وفي التاريخ، إذ أبانت عن شجاعة وجرأة في قراءتها لسلوكيات المثقف الذكوري الذي وضع حجابا على كل ما يتعلق بالمرأة من قضايا وإشكاليات تاريخية ودينية / سياسية واجتماعية.
إن الحريم / شهرزاد / شهريار / الحجاب / الجنس / الإسلام / الحداثة / الحلم / الديمقراطية / الذكاء / الجسد، كانت هي الآليات البنيوية التي أسست عليها نسقها الفكري الذي اخترق كل الطابوهات وفضح لآليات القهر والقمع التي مورست على المرأة خلال أربعة عشرة قرنا من الزمن.
تحدثت فاطمة المرنيسي من خلال هذه الآليات عن العلاقات المترابطة بين الدين والجنس، والمرأة، وأطلقت صرخة فكرية قوية لتحريرها من مرتبة العبيد والجواري، ودافعت عن حق النساء في التعليم والعمل والسفر والتنقل بكل حرية خارج الحدود، وحاربت فكرة الحريم (حتى الغربي) وتعدد الزوجات وملك اليمين، وغاصت عميقا في التراث لتجعل الرجل يشعر بخوفه، فالمرأة في نهاية المطاف، ضحية خوف الرجل / ضحية جبروته.
ومن خلال هذه الآليات أيضا، كشفت الدكتورة فاطمة المرنيسي بليونة ولطف، أن التراث العربي الذي يحدد عادة ببداية عصر التدوين، كان في مجمله إنتاجا ذكوريا، بما في ذلك تفاسير القرآن الكريم والسنة النبوية، ولم يكن للمرأة أي مساهمة في إنتاج هذا التراث، وهو ما عطل حضورها، وجعلها باستمرار مؤطرة برؤية ذكورية جبروتية.
يؤكد أحد الباحثين في تراث فاطمة المرنيسي : أن الإستراتيجية المركزية لهذا المتن الغني، هو إثبات أطروحة المساواة بين الجنسين/ أطروحة نسق لها بنيات متعددة، في اتجاهات متعددة ومجالات متعددة أيضا، سواء تجاه الماضي أو الحاضر أو المستقبل تجاه علاقة المرأة بالتعليم والشغل والدراسة والذكاء والكفاءة أو علاقتها بالسياسة والاقتصاد والثقافة أو علاقتها بالمبادرة والفعل في المجال الخاص والمجال العام.
نعم إن الباحثة، العالمة، فاطمة المرنيسي كاتبة متميزة ومتفردة في علاقة المرأة وأثرها في المسائل والقضايا الاجتماعية الساخنة والمحورية، تغلغلت في مساحات الممنوع والمحظور والمحرم وطرحت آراء فكرية مختلفة ومغايرة، أثارت جدلا ونقاشا حادا وعنيفا بين مؤيد لطروحاتها من التنويريين الجدد، ومعارض لأفكارها من جماعات التكفير وقوى التعصب الديني.
-4-
في أقل من شهر من رحيلها، صدر عنها كتاب ضخم (326 صفحة) تحت عنوان "شهرزاد المغربية" من أعداد ياسين عدنان، يتضمن شهادات ودراسات وازنة عنها، لكتاب وباحثين ومفكرين من الشرق والغرب.
جاء في تقديم هذا المؤلف : إن فاطمة المرنيسي امرأة عصيبة عن التصنيف، يتداخل الفكري في كتاباتها بالأدبي والبحث الأكاديمي بالتخييل، هي متعددة بطبيعتها، لذلك كانت دوما ترفض الاختزال.
رحم الله العالمة، الباحثة، الكاتبة، فاطمة المرنيسي، وأسكنها فسيح جناته، إنها عملت بشجاعة ووفاء وإخلاص، من أجل القيم الثقافية والعلمية والدينية، وأعطت بسخاء من أجل حرية المرأة ومساواتها وحقوقها، بالارتكاز على الموروث الديني الإسلامي، وعلى اجتهاد العلماء والفقهاء والباحثين في علوم المعرفة.
إنها قامة من قامات ثقافتنا العربية في الزمن الراهن.
على المغرب أن لا يطمسها في رفوف النسيان، كما فعل لغيرها من القامات العلمية والثقافية.