إن التحولات السوسيو اقتصادية والسوسيو ثقافية ،التي شهدتها وتشهدها المجتمعات البشرية ،بشكل مكثف أساسا في ما بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة عدة عوامل وتأثيرات ،يتداخل فيها ما هو ذاتي بما هو موضوعي وما هو داخلي بما هو خارجي، (لا يتسع هذا المقال لسرد الأهم فيها) تستحوذ فيه الرأسمالية المتوحشة وكذا التكنولوجيا وأخيرا العولمة على حصة الأسد .جعلت بنيات عديدة ،وظواهر اجتماعية وعادات وممارسات وقيم وأخلاق وسلوكيات ولغات وخطابات ومصطلحات وأسماء تندثر بشكل شبه كلي ونهائي.وأخرى تظهر وتنمو وتأخذ مكان القديمة.
في ما مضى حتى أواخر السبعينات من القرن الماضي كان المجتمع المغربي إلى حد كبير يعتمد على إقتصاد الكفاف والإستهلاك المنظم والمعقلن حسب الحاجة .كما عرف أشكالا متعددة من التضامن الأسري والقبلي بعيدا عن التبدير والإسراف ومنطق الإستهلاك المفرط الذي هو من خصوصيات المجتمعات الموغلة في الرأسمالية.إلى حد ما، كان كل شيء يستعمل ويستهلك حسب الضرورة والحاجة فقط ،بل نظرا للفقر والندرة والخصاص وضعف القدرة الشرائية، كانت هناك أشياء وأدوات تستعمل لمرات عديدة وفي وظائف متنوعة ،حتى تتلاشى جزئيا أو كليا وتصبح غير صالحة لأية وظيفة ولأي استعمال .
مثلا في ميدان اللباس كان الأخ الأكبر يورث كسوته وأحذيته وأدواته لأخيه الأقل منه سنا أو لإبن عمه أو لإبن عمته أو لإبن الجيران ألخ... كذلك بالنسبة للبنت البكر مع أخواتها وبنات العمومة والخؤولة والجيران .وفي مرات عديدة كانت الجدة أو الأم تلجأ إلى عملية ترقيع هذه الملابس ليعاد استعمالها من جديد ،إلى أن تتآكل كليا وتنتهي إلى قطع قماش ،هذه القطع كانت تستعمل حفاظات للأطفال كما كانت تستعمل فوطات صحية للإناث البالغات كما كانت توظف كمناديل لمسح الأيدي أو الأنوف أو لأشكال أخرى من التنظيف، كما وظفت قطع القماش لنسج الأفرشة والأغطية. أما في مجال الدراسة بعد نهاية السنة الدراسية كانت كتب وأدوات الأخ الأكبر تسلم للأخ أو الأخت أو ابن الجيران الذي يليه في الترتيب الدراسي.كما كانت أكياس بلاستيكية مخصصة للقهوة أو الفلف الأحمر المطحون (الشاونية) يعاد استعمالها وتوظيفها كمحافظ يحمل فيها التلميذ كتبه وأدواته المدرسية. وعند ذبح شاة أو خروف أو جدي في مناسبة ما، كانت الذبيحة تستهلك عن آخرها ،فالجلد بعد عمل شاق في تنظيفه يحول إما إلى فراش (هضورة) أو كربة لتبريد الماء أو لمخض الحليب وتحويله إلى لبن واستخراج الزبدة ،أو لتجليد الكتب وكذا آلات الطرب كالدف والبندير والطبل والتعريجة .أما في ميدان الطبخ كانت المواد الغذائية تستهلك عن آخرها حتى القشور لا تحول إلى أزبال بل إلى علف يمنح للماشية وللدواب. وعند شراء بعض المعلبات فبعد استهلاك ما بداخلها كانت العلب تحول إلى بعض اللعب للأطفال والبعض منها يحول إلى أدوات مفيدة في المطبخ كقارورة المربى أو الحليب المجفف التي وظفت لحفظ الملح أو السكر أو التوابل (العطرية) كما كانت علب الزيت النحاسية تحول إلى آلات للطرب وتستعمل من طرف الأطفال في غياب آلات الطرب، كذلك اطارات الدراجات الهوائية كانت من اللعب الأساسية للأطفال.ونفس الشيء يسري على كارطون التلفيف l'emballages"" خصوصا السميك منه والجيد حيث كان يحول إلى صناديق لحفظ بعض الأثاث المنزلي وحتى الملابس.وفي ميدان التبضع كان الناس يستعملون قفة مصنوعة من الحلفى أو سعف النخيل أو الدوم وعند تآكلها تحرق أو تعطى للدواب لأكلها. هذا غيض من فيض فالمقال لا يتسع لذكر ولسرد المزيد من الأمثلة التي لم يبقى منها إلا القليل في البادية.
الكل كان قابل للإستعمال وإعادة الإستعمال لمرات عديدة و ربما في وظائف مختلفة ومتعددة ولم يكن يلقى في مطارح النفايات إلا بعض العظام والزجاجات المكسرة .أما حاليا فقد أصبح كل شيء جوطابل إبتداء بمنديل تنظيف الأنف (kleenex ( مرورا إلى الملابس حتى الأفرشة وكذا الكؤوس والصحون والملاعق والسكاكين والفرشاة وآلات التصوير والهواتف النقالة كما الكمبيوتر وربما غدا سنسمع عن السيارات بل ربما الشقق جوطابل ألخ.....والفظيع أننا لم نعد قادرين حتى على جمع نفاياتنا و تسيير مطارحنا وأصبحنا نقدمها للشركات الأجنبية من أجل تنظيمها وتسييرها.
وأنا أكتب هذه السطور القليلة ومع استحضاري وتمعني في هذا الكم الهائل من الجوطابلات في زمننا تساءلت مع نفسي . رغم أن حكامنا فيهم مجموعة من المسؤولين الذين لا يصلحون لشيء بل منهم عدد لا يستهان به من المفسدين والمخربين ، ابتداء من مستشارينا الجماعيين مرورا إلى رؤساء الجماعات دون أن ننسى برلمانيينا وصولا إلى وزرائنا المحترمين، كذلك مجموعة من مدراء مؤسساتنا ومسؤولي النقابات والأحزاب والجمعيات وبعض مثقفينا وكتابنا. ألا يجوز لنا أن نحولهم إلى جوطابلات هم أيضا ؟ دون أن ننسى مجموعة من القوانين فهي أيضا في حاجة ماسة إلى مطارح النفايات ، مادمنا في زمن الجوطابل . قبل أن يذهب بنا التاريخ كلنا إلى مزبلته وتصبح الأمة كلها جوطابل.